لم تنعم ليبيا طويلاً بالاستقلال 1951، بعد سنوات قضتها نهباً للاستعمار من بريطانيا وإيطاليا.. وساحة لمعارك الحرب العالمية الثانية، إلا وقد دهمها 1969.. انقلاب لعسكريين من صغار الرُتب، أنهى حكم ملك صالح حافظ على نفط بلاده من توغل الهيمنة الأميركية، ليحق عليه- ربما- العقاب من جانب الولايات المتحدة.. التى سرعان ما تلقت بدورها «جزاء سنمار» من الحكام الجدد.. بالمخالفة لما جاء ببيانهم الأول عن طمأنة الأجانب، وتأمين وجود القواعد الأجنبية، من حيث إن حركتهم (الانقلابية) عمل محلى وليس خارجياً، ذلك قبل قليل من مطالبتهم برحيل القاعدتين الأميركية والبريطانية عن البلاد، وبالتوازى من ناحية أخرى، مع تبديد عوائد النفط الليبى على نزاعات وأعمال ليست فوق مستوى الشبهات.. ولا ناقة لهم ولا جمل فى التورط بها، إلا أن تكون- ولو بشكل غير مباشر- نيابة عن المخابرات الأميركية، التى لو لم يكن قائد الانقلاب «القذافى» حاضراً، بحسب صحيفة الحياة اللبنانية وقتئذ، لصنعت أميركا «قذافى» آخر، ومع ذلك فإنه لم يسلم رغم عطاياه المجانية لحساب واشنطن.. من محاولتها اغتياله بقصف منزله فى العزيزية 1986 فى عهد الرئيس «ريجان».
إلى ذلك، وعلى الصعيد المحلى، لم تكتف (الثورة) بطرد الملك، بل خاضت حرباً- ليست غير مبررة تماماً- على البرجوازية والإقطاع السياسى فى محاكاة شبه صريحة للاشتراكية الماركسية، لكن بطابع ليبى.. أُطلق عليها «النظرية العالمية الثالثة»، (الكتاب الأخضر- شركاء لا أجراء- النهر العظيم- الجماهيرية الشعبية.. إلخ)، كان بالإمكان لو أحسن مباشرتها نقل البلاد إلى مرتبة متقدمة، لولا استعاضة «القذافي» عن رفاق السلاح الذين بقي بعضهم إلى جانبه حتى مقتله، أو استشهد فى 2011 دفاعاً عن البلاد، باستبدالهم بما أطلق عليهم «رجال الخيمة»، بفرض أنهم الأكثر ولاء- للقائد والثورة- إلا أن ولاءهم انحصر داخل دوائر المال والفساد- مما أفشل «التجربة الاشتراكية»، فاقتمها أخطاء قاتلة من القيادة الليبية.. حين تحالفت- من أجل «التوريث»- مع جماعة الإخوان المسلمين، وفى الإفراج عن كوادرها، ربما بناءً على ضغوط أميركية أعقبت غزو العراق 2003، رضخت على إثرها طرابلس فى ديسمبر، دعتها إلى جملة من التنازلات، من تفكيك ترسانتها الصاروخية وما إليها، إلى الإقرار بمسئوليتها عن أعمال إرهابية سابقة مع دفع التعويضات عنها.. إلخ، ما أتاح – وغيره – للإخوان فيما بعد الانقلاب على نظام «القذافى» فبراير 2011، وبمساعدة فعالة من ضربات حلف «ناتو»، ما أدى إلى مقتله فى أكتوبر، وبداية (ثورة جديدة) تعمها الفوضى واللااستقرار حتى الآن.
وهكذا، بعد نصف قرن على انقلاب سبتمبر 1969، ومرور نحو ثمانى سنوات أخرى على (ثورة) فبراير 2011، وما بين انتهاء الأولى وفشل الثانية، فإن الجيش الوطنى الليبى- المسيطر على شرق البلاد دون العاصمة طرابلس الغرب- يجاهد فى النهوض لاستعادة الدولة من جماعات الإسلام السياسى بقيادة تنظيم «الإخوان» الذى لا يؤمن- كعادته- لا بالدولة الوطنية، ولا بجغرافية ليبيا، فيما ينقسم الفرقاء الليبيون سياسياً، حول مهمة المبعوث الدولى إلى بلادهم، بعدما رفض الغربيون إزاحته عن مهمته، ما يعد- بحسب برلمانيين ليبيين- دليلاً قاطعاً على أن الصراع فى ليبيا.. دولى، وكما أن روسيا والصين «لا تميلان إلى أى من الموقفين الليبى والغربي»، فإن وزير الخارجية الروسى يحذر فى 17 أكتوبر 2019، من «خطورة استمرار أمد الأزمة الليبية على المنطقة كلها، خاصة إذا تحولت ليبيا إلى قاعدة رئيسية للإرهابيين على طول شمال أفريقيا، ذلك عبر الفارين من الصراع الدائر فى شمال شرق سوريا.. جراء العملية العسكرية التى تشنها تركيا هناك»، ناهيك عن حالة التدهور الأمنى والعسكرى الذى تعيشه ليبيا راهناً، ما يجعلها ملاذاً آمناً ومثاليًّا للإرهابيين.
خلاصة القول، إن على الشعب الليبى أن يستفيق من غفوة (الثورات) والربيع العربى، ويساند الجيش فى مساعيه ضد الميليشيات، وفى التصدى، سواء للتدخلات العسكرية من جانب تركيا وقطر أو للأطماع الدولية فى البترول الليبى، ذلك لكى يعيش فى دولة مدنية عمادها الأمن والاستقرار.. لها ولجيرانها.. على طول نصف قرن بين «ثورتين» فى ليبيا.