يذكر الأستاذ العقاد أن مؤرخى المسرح أحصوا عدد الروايات التى كتبت بالإنجليزية للتمثيل فى السنوات العشر بين سنتى 1586، 1606 فبلغ نحو مائة وخمسين رواية مستمدة من التاريخ المعروف بين أدباء الإنجليز عند نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن الذى تلاه.
حدث ذلك فى تلك الفترة لأنها فيما يرى كانت فترة تاريخية تهم التاريخ وتهتم بالتاريخ، إذ هى فترة اليقظة الوطنية فى الجزر البريطانية، بلغت حماسة القوم فيها لتاريخهم ومعالم حياتهم الغابرة والحاضرة غايتها على أثر الشعور بالخطر من جانب الدول الكبرى فى القارة، وأعظمها يومئذ إسبانيا وفرنسا، وزادهم النصر حماسة على حماسة فنشطوا لإحياء تراثهم الغابر على علاته، وأقبلوا على كتابة التاريخ وجمع أسانيده وتمثيل مشاهده إقبالاً لم يكن معهوداً بينهم قبل ذلك.
ويعنى الأستاذ العقاد من هذا الإقبال على إحياء التاريخ فى عصر شكسبير، جانب الفن المسرحى، وجانب الدلالة على معنى التأليف المسرحى فى تلك الفترة، وأنه إذ كان اقتباس المسرحية التاريخية من مصدر معلوم أمرًا مفروغًا منه بين مؤلفى الرواية وقرائها والناظرين إلى حوادثها ومشاهدها وشخوص أبطالها، فإنه لا ينتظر أن يأتى المؤلف بتاريخ من عنده، بل ولا يُحمد منه ذلك إذا أتى بالتاريخ مخترعًا ملفقًا منقطع السند فى جملته وتفصيله، وإنما المنتظر والمطلوب منه إتقان العرض وترتيبه وتهيئة المناظر والأقوال لإشباع ما عند المتلقين من الشوق والشعور بالحادث. فإذا تسنى للمؤلف أن يشبع هذا فذلك حسبه من الوفاء بحق التأليف والتأثير عن طريق التمثيل. بل وأجازوا للمؤلف بل أوجبوا عليه أحيانًا أن يعيد تأليف الرواية التى كتبها المؤلفون قبله دون أن يدركوا تلك الغاية.
قال «جون هامبدن Hampden John» فيما يورد الأستاذ العقاد قال فى التعقيب على رواية الملك جون: «إن شكسبير لم يخترع موضوعات رواياته، بل كان يأخذ القصص والشخوص والحوادث حيثما اتفقت له وراقت لديه، ومنها على سبيل المثل روايات سابقة، وسير مشهورة، وتراجم من بلوتارك، وحكايات من الإيطالية يعلم أنها معروفة بين النظارة، ولكنها فى عصرنا هذا تحسب فى عداد السرقات التي لا تُطاق خلافًا للعرف الذى كان يحسبها القاعدة المصطلح عليها.
والمهم فى هذه الحالة وجود الفكرة عن التأليف المسرحى بهذا المعنى، فإذا ما تعود الناس أن يشهدوا على المسرح حوادث وشخوصًا يعرفونها ويترقبون عرضها فى سياق التمثيل، فإنهم لن يقصروا ذلك على التاريخ وحوادثه وأشخاصه، بل يقبلونه ولا يستغربونه إذا تمثل لهم فى حوادث القصص المطروقة والحكايات الشائعة والأخبار الحاضرة وما إليها.
ويرى الأستاذ العقاد، أنه كان لفهم التأليف المسرحى بهذا المعنى أثره فى تقدير الفن المسرحى وتقرير مكان المسرح فى الحياة الفنية والحياة الاجتماعية، فكان من هذا الأثر استقلال الكتابة المسرحية وكفاية الفن المسرحى بذاته، فتعود الناس أن يروا ما يعرض على المسرح عملاً مكتفيًا بذاته مهمًا لأسلوب عرضه وأدائه، غير متوقف على القصة ولا على الحادثة ولا على التاريخ نفسه، وربما كان من أثره أيضًا إباحة الخروج على التقاليد المرعية فى توحيد الزمن والمكان والواقعة، فما صلح للعرض على المسرح بالغًا من نفوس النظارة مبلغه المطلوب فلا حرج عليه أن تتفرق فيه المواقع والأوقات ما أمكن جمعه فى نطاق المسرح ومناظره المستطاعة بحيلة من الحيل التى لم تكن ميسورة فى تمثيل الروايات الإغريقية واللاتينية. بل ربما كان لكفاية الفن المسرحى بذاته أثره فى إباحة التصرف بترتيب الحوادث التاريخية وترتيب أماكنها وأوقاتها، أو فى إخضاع التاريخ على المسرح لمقتضيات التمثيل سواء نشأت هذه المقتضيات من ضرورات التوفيق بين الوقائع والمناظر أو من دواعى التحسين والتجميل لاسترعاء النظر وإبلاغ الأثر المقصود واستثارة الشعور على الأسلوب المأثور، ولهذا أجاز شكسبير وغيره فى رواياتهم التاريخية أن يخالفوا سرد الحوادث على علمهم بحقيقتها فى كثير من الحالات.
ولم يكن شكسبير يستغنى عن شىء من الصقل والتحوير فى مصادر التاريخ، إلاَّ أنه كان يقتصد ما استطاع في المساس بما يعلمه من أصول الحوادث التاريخية، ويستعين بامتداد الزمن واتساع الموضوع، ويقسم العهد الواحد أقسامًا مستقلة ويتحرز بذلك من التداخل أو الخلط بين أنبائها وأسمائها.
ومصادر شكسبير من حيث الموضوع ورجاحة السند، تنقسم فيما يرى الأستاذ العقاد أقسامًا ثلاثة: مصادر التاريخ، ومصادر المأساة، ومصادر الملهاة.
ومصادر الروايات المستمدة من الجزر البريطانية تكاد تنحصر فى مصدر واحد هو الموسوعة التاريخية التى شرع الناشر «ريجنالد وولف Reginald wolf» فى إعدادها وتبويبها للإحاطة بأخبار العالم القديم والحديث، ولكنه مات قبل إتمامها، فلم يظهر منها سوى أجزاء خاصة بالجزر البريطانية، أهمها ما كُتب بقلم «هولنشد ـHolinshed»، وعليها كان تعويل شكسبير فى سلسلة رواياته التاريخية.
على أنه كان يرجع أحيانًا فيما يقول الأستاذ العقاد إلى مصادر من المسرحيات التى كتبت قبل تمثيل مسرحياته، كرواية «عهد الملك جون المضطرب»، والتى لم تُنسب إلى مؤلف معروف.
كما أن لشكسبير مسرحيات مستمدة من غير تاريخ الجزر البريطانية، معروفة المصادر محسوبة فى عداد المآسى، ولم يحسبها فى عداد التاريخيات المقصورة على تاريخ انجلترا أو ما جاورها. وهى روايات: كريولينس، ويوليوس قيصر، وأنتونى، وكليوبترة. وكلها من سير بلوتارك فى تاريخ الرومان، وقد كانت مشهورة متداولة فى أصلها اللاتينى، وترجمت عن الفرنسية إلى الإنجليزية.
وقد كانت سير بلوتارك هذه أهم المراجع فى رواياته الرومانية، ولكنها لم تكن مرجعه الوحيد فيها ولا فى غيرها.
www. ragai2009.com