مع أن ، وتبقى كذلك، فإن مستقبلها يرتبط وثيقاً مع آسيا، كون تمركزها عند حافة أقصى الغرب الآسيوى (الزاوية قائمة شمال شرق البحر المتوسط) ، كشريان واصل بين محيطين ، يجعل منها مفتاحا فريدا لالتماس جيوسياسى بين القارتين الآسيوية والأفريقية ، ما يفرض عليها الاهتمام بمتابعة تطورات الصعود الآسيوى التاريخى.. من حيث تأثيراته عليها.. وعلى مستقبل الحضارة البشرية بوجه عام.
إلى ذلك، مع منتصف القرن الحالى، بحسب الدراسات، فإن ثلاثة من أعظم أربعة اقتصادات فى العالم.. سوف تكون آسيوية.. وبهذا الترتيب: الصين، الولايات المتحدة، الهند، واليابان، وإذا كان صعود الغرب خلال القرون القليلة الماضية قد غير وجه التاريخ، فإن صعود آسيا المرتقب، كما يرى المراقبون، سوف يأتى بتحول مهم مماثل.. يجمع بين الحداثة الغربية التى انطلقت من خلالها المسيرة الآسيوية.. وبين الذكريات الثقافية الحضارية التى خلفها الماضى لهذه الشعوب الآسيوية، ولا تزال حية، ليستعيدوا لأممهم من خلال زادها.. شبابها، وليبنوا مستقبلها على صورة هذه العظمة الغابرة، وحيث من المتوقع من خلال هذا النموذج الحداثى- الحضارى أن يولد فجر جديد فى تاريخ البشرية، خاصة إذا ما توصل آسيا والغرب فيما بعد إلى تفهم مشترك حول طبيعة وأهداف هذا العالم الجديد، وأما إذا شعر الغرب بشكل متزايد بالتهديد من نجاح المسيرة الآسيوية- ذات النواة الثلاثية الصلبة- فقد يبدأ فى التراجع عن تبنى انتشار التحديث.. كذا عن الاستمرار فى العمل مع آسيا فى اتجاه انفتاح النظام العالمى، وليتجه عندئذ إلى التراجع والبدء فى إثارة القلاقل لآسيا.. سياسياً واقتصادياً، وهو الأمر الذى برزت بوادره مع 2008 فى صوره الحمائية «cronismprote» التى يلجأ إليها الاتحاد الأوروبى فى مواجهة الدول النامية، بحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، ليستبدل الستار الحديدى بين الشرق والغرب.. بستار من الجمارك بين الشمال والجنوب، وحيث تشير الإحصائيات إلى أن لجوء الغرب إلى الحمائيين يجرد الدول النامية بما يقارب 700 بليون دولار سنوياً من دخلها من الصادرات، ناهيك عن وسائل القلقلة الغربية الأخرى، عسكرية وسياسية، تجاه المسيرة الآسيوية.. التى ستقرر بناء على رد فعل الغرب تجاهها من عدمه.. مجرى تاريخ العالم.
على الجانب الآخر من المعادلة الآسيوية الغربية، فإن علاقات الشعوب الآسيوية على ما هى عليه اليوم.. غير ما كانت منذ عهود تاريخها الأولى، وقت أن عزلتها الدول الغربية عن بعضها.. من بعد السيطرة عليها فى القرون الأخيرة، إذ تقاسمتها فيما بينها كمناطق نفوذ قبل أن تحدث تحولات دراماتيكية للمسيرة الآسيوية خلال النصف الثانى من القرن العشرين، ذلك حين استقلت الهند فى 1947، وانتصرت الثورة فى الصين بعد عامين من إعلان استقلال الهند، ولتصبح الدولتان.. قوتين رئيسيتين من قوى الثورات الآسيوية.. اجتماعياً وسياسياً، إلى جانب اليابان من قبلهما، وهى التى اجتاحت آسيا اقتصادياً فى القرن العشرين، وحيث أصبحت الهند ليبرالية ديمقراطية، وأخذت الصين بعد حقبتها الماركسية الأولى.. باقتصادات السوق الحرة مع التخطيط المركزى، فيما انفردت عنهما اليابان عقب الحرب العالمية الثانية ببعض الإمكانات الفريدة.. كونها المجتمع الصناعى الأسبق فى آسيا.. يلتقى عندها الشرق والغرب، ولتصبح هذه الشعوب تحت «القوس العظيم» الذى يعلو الأمم من اليابان شرقى آسيا إلى الباكستان والشرق الأوسط فى غربها، وما يجرى بينهما فى الهند والصين.. يؤثر على آسيا بكاملها، بما فى ذلك الدخول إلى العالم الإسلامى العربى فى أقصى الغرب الآسيوى، إذ أصبح انتقال الحداثة مسألة وقت فقط.. من الهند إلى باكستان إلى إيران.. بحيث أن كل آسيا سيتم تحديثها فى القرن الـ21، فإذا صدقت هذه التوقعات الملموسة.. فلن تكون إسرائيل حينئذ.. هى مركز الحداثة فى غرب آسيا.. خاصة حال استثنينا الآثار المترتبة على بناء مجتمع «نيوم» التكنوتروني الذى افتتح مشروعه عشية أكتوبر 2019.. علي الحدود بين السعودية ومصر والأردن وإسرائيل، ما قد يعكس ازدهارا علي مجمل دول الجوار.
وبالعودة إلى النواة الآسيوية الثلاثية الصلبة.. التى يتوقف على تطورها مستقبل كل الأمم تحت «القوس العظيم» من أقصى الشرق الآسيوى إلى دول الشرق الأوسط فى غرب القارة، فإن على الأخيرة- ومصر خاصة- أن تستوعب كلا من الخلفية التاريخية والتجربة الحداثية لكبريات الدول الآسيوية الثلاث، إذ تمكنت الهند بفضل نهجها الذى أخذ بالدبلوماسية التوفيقية.. من احتلال مركز رئيسى مطرد الصعود فى السياسة الدولية، لم تكن لتبلغه لولا ما تذرعت به من استراتيجية بارعة فى سياستها الداخلية والخارجية، كما كان للتاريخ دوره فى تكوين المناخ الملائم لإنماء مواردها المادية والإنسانية، حيث أصبحت سياستها الخارجية تتداخل تداخلاً أكيداً مع السياسة الداخلية.. ضماناً للمصلحة الوطنية، وارتقاءً بمقوماتها مع بدايات القرن الحالى إلى مصاف الدول الكبرى.
أما الصين، فهى كالهند واليابان.. وباقى الأمم المرشحة لجعل القرن الحالى هو «قرن آسيا» بامتياز.. إذ كانت حديثة العهد بالعلاقات الخارجية- مقارنة بالغرب- بالمعنى المفهوم اليوم، إذ ظلت الهند لقرون «درّة مستعمرات التاج البريطاني»، ولا تزال اليابان تعالج مشكلة الانعتاق من العزلة التى أوقعتها فيها نتائج الحرب العالمية الثانية وما قبلها، كما كانت علاقات القصر الامبراطورى فى بكين بالعالم الخارجى لقرون طويلة كعلاقة السيد بأتباعه فى التبت وكوريا ومنغوليا.. إلخ، أما سكان البلاد الأخرى فهم من وجهة نظرها مجرد «برابرة» أجانب، ولم يستطع الضغط الغربى أن يقضى على هذه العزلة حتى القرن التاسع عشر- لأسبابهما، وليصبح واقع الحال بالغرب.. وكأنه يتمنى بعد الصعود المطرد للصين.. لو أنه لم يقطع عليها عزلتها الرائعة، إذ باتت تشكل للغرب منذ ثورتها 1949 وحتى الآن.. أحد أهم عناصر القلق والتحدى الذى يواجهه للهيمنة على آسيا.. وفى التنافس على مصادر الطاقة، بل وفى الداخل الأمريكى، ولتصبح بكين أحد الأقطاب المرشحة للمشاركة فى قيادة النظام الدولى.
وبالنسبة لليابان، فإنها تبدو بعد انقضاء نحو قرن ونصف القرن من عهد «الميجي» 1867، وكأنها تواجه بعض المشاكل التى واجهتها فى العهود السابقة عليه، منها الخروج من العزلة لاستئناف دورها فى الحياة الدولية عبر اعتماد نهج «غير متردد» ومستقل فى السياسة الخارجية، وفى العمل على بلوغ المساواة مع الغرب بعدما تعرضت خلال الحقب الأخيرة لضغط خارجى بالغ.. ولمعاملة شبه مجحفة من قبل الآخرين، ذلك دون الإقدام على التضحية بما يوفره لها التحالف القوى مع الغرب.. إذ يؤمن لها مستويات التقدم المالى والتقنى الذى بلغته.. كما الحماية من أخطار محتملة قد تأتى إليها من بعض دول الجوار، وفى الاحتفاظ بمركزها القديم- الجديد.. فى الشرق الأقصى، وهو الأمر الذى لم يختلف بعد بروز اليابان كقوة عالمية، كونها أقرب الدول إلى الصين فى شمال شرق آسيا، وحيث دورهما أساسياً فى استقرار السلم فى آسيا، التى يتوقف تحريرها من السيطرة الغربية على مدى تعاونهما، وإذ بات من المعلوم ما حاق بالنمرين الآسيويين.. وبالقارة كلها جراء صراعهما فى الماضى، فإن لا أحد يعرف كيف سيتغير وجه التاريخ فى تلك البقعة من العالم.. حال نفضها عن كاهلهما ذكريات الماضى البغيضة.
إلى ذلك، فإن صعود كبريات دول آسيا الثلاث.. سيكون أمراً طيباً للشعوب الآسيوية، إذ إن لصعود كل من الصين والهند أثر مهم فى تحرير مئات الملايين من أغلال الفقر، كما يحقق الكثير من الخير للعالم، وحيث يدعو «روبرت زوليك» المدير المالى السابق للبنك الدولى.. الصين فى 2005 لكى تصبح «شريكاً مسئولاً» فى النظام الدولى، ومنذ هذا الوقت استجابت بكين بشكل إيجابى لهذه الدعوة، حيث إن معظم الآسيويين يريدون أن يصبحوا شركاء مسئولين فى النظام الدولى.. منذ باتوا فى العقود الأخيرة من أكبر المستفيدين من النظام المتعدد المفتوح، وهو النموذج الذى ابتدأته اليابان لتسير على نهجها النمور الاقتصادية «الأربعة»، ثم لحقت بهم الصين التى حققت من خلال النموذج الإنمائى لليابان أسرع نمو اقتصادى فى العالم، الأمر الذى ألهم الهند لتحقيق نفس النجاح.
إن نجاح المجتمعات الآسيوية فى الصعود.. لم يكن لكونها قد أعادت اكتشاف بعض جوانب القوة لحضارتها القديمة فحسب، إنما فى الأساس لأنها اندفعت وراء التجربة اليابانية، ولو متأخراً، بنحو 150 عاماً، لكى تفهم رسالة النجاح الغربى (..) خلال المائتى عام الماضية.. ربما من أهمها شيوع ثقافة السلام فى العلاقات بين الأمم الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بعد قرون من الحروب فيما بينهم، وهو الأمر الذى لم تبلغه بعد امكانيات الصراع والتنافس بين القوى والكيانات الآسيوية الكبيرة (..)، مما قد يعيق فضلاً عن قلقلة الغرب.. من وتيرة تقدم المسيرة الآسيوية، وللآملين من المجتمعات العربية غرب القارة.. حذو حذوها، إذ لا تزال الأخيرة نهباً للصراعات والغيرة الدبلوماسية فيما بينها، مكتفية بالتسكع على أبواب الغرب طلباً للمعونات والحلول السياسية والاقتصادية سابقة التجهيز من دون النفاذ إلى ما يسمى أعمدة الحكمة الغربية (..) واستيعابها على غرار ما كان من أمم «القوس العظيم» من الشرق الأقصى إلى الغرب الآسيوي، غير المنفصلة – عبر مصر – للامتداد على طول الشمال الأفريقى نحو المحيط الأطلنطى.