دبلوماسية الحرب.. بين القوة والسياسة
تتوافق مع هذه الأيام.. الذكرى السادسة والأربعين لمعركة أكتوبر 1973، كآخر سلسلة الحروب بين مصر وإسرائيل منذ 1948، وفقاً لتوقعات الرئيس «السادات» الذى سبق أن اتخذ القرار بخوضها، ذلك طالما التزم الجانبان بعهودهما فى اتفاق السلام بينهما مارس 1979.
لقد استهلت تلك الحرب الثأرية أولى خطواتها عقب حرب 1967 مباشرة، وفى إطار عقد ضمنى غير مكتوب بين الشعب الذى رفض القبول بنصر لا تستحقه إسرائيل.. وبين الحاكم، إذ يربط بين شرعية نظام الحكم وأهليته للبقاء.. وبين عزمه الجاد على تصفية آثار العدوان، ولتصبح حرب الاستنزاف مثلما حرب أكتوبر- فى إطار هذا المفهوم- ضرورة وطنية وقانونية.
فى 8 أغسطس 1970، وبوساطة أميركية، تم التوصل إلى إيقاف إطلاق النار على جبهة السويس، ذلك قبل أسابيع من رحيل الرئيس «عبدالناصر» نهاية سبتمبر، ومع حلول التجديد لإيقاف النار فى فبراير 1971، وافقت مصر على امتداده (لمدد أخرى متتالية)، بالتزامن مع إطلاق مبادرة جزئية لفتح قناة السويس، وإن رفضتها إسرائيل لأسبابها، فقد كانت مؤشراً عن رغبة مصر تجنب ويلات الحرب، وكخطوة تجريبية لدفع عجلة التسوية السياسية، ما دل على تغيير أساسى فى سياسة مصر الخارجية فيما يتصل بمسألتى الحرب والسلام.
خلال العام 1972، أنهى الرئيس «السادات» فى يوليو.. مهمة الخبراء السوفيت فى مصر، قبل شهور من إحالته فى أكتوبر وزير الحربية (الفريق صادق) ليحل محله الفريق «أحمد إسماعيل».. العسكرى المحترف المنضبط من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ذلك بالتوازى مع إعادة تنظيم القيادة العامة للقوات المسلحة، وإلى إعادة تصحيح التوازن فى العلاقات المصرية- السوفيتية، ولترتبط هذه الإجراءات الدراماتيكية بتحولات مصرية فى العام التالى 1973، على صعيد القوتين العظميين، وبالنسبة للجبهة العسكرية، إذ سرعان أن وجهت الولايات المتحدة الدعوة إلى مستشار الأمن القومى «حافظ إسماعيل» لمقابلة الرئيس «نيكسون» فى البيت الأبيض، ولإجراء محادثات مع نظيره الأميركى «هنرى كيسنجر» فى فبراير بنيويورك، وفى مايو (فرنسا) من نفس العام، استبقها المستشار المصرى بزيارة موسكو فى يناير.. لمحادثات مطولة مع الرئيس «بريجينيف»، بهدف تأمين العلاقات الثنائية فيما لو فشلت المفاوضات المرتقبة القادمة مع أميركا، كما لتأكيد الالتزامات السوفيتية فيما يتصل بالمعلومات والاستعواض، وبالنسبة للأسطول السادس الأميركى فى البحر المتوسط، إلى جانب الاتفاق من حيث المبدأ على صفقة سلاح بقيمة مليار روبل، على أن يبحث وزير الحربية المصرى مع نظيره الروسى- تفاصيلها- عند زيارته إلى موسكو فى مارس 1973، ذلك قبل شهور من نشوب الحرب فى أكتوبر، حيث تدفقت خمس فرق عسكرية مصرية عبر قناة السويس، للاستيلاء على خط بارليف المنيع، والاشتباك فى معارك تصادمية مع القوات الإسرائيلية على ضفتى القناة.. استغرقت ثلاث أسابيع قبل التوصل إلى إيقاف النيران فى 29 أكتوبر 1973.
موجز اليوميات السياسية لحرب أكتوبر 1973
(1) الإصرار فى المرحلة الأولى للحرب -6 13 أكتوبر على استمرار المعركة حتى قبول إسرائيل بالانسحاب إلى ما وراء حدود 1967 (وربما كان ذلك مستطاعاً حال التمسك بالأراضى المحررة «رءوس الكباري» شرق القناة، مع إدارة معارك «تصادمية» من خلال «الدفاع الإيجابي»، مما يعظم ضعف قدرات إسرائيل البشرية.. وصعوبة استمرارها طويلاً فى التعبئة، وسيجبرها من ثم على القبول بالانسحاب إلى الحدود).
(2) استئناف الاتصال المباشر مع أميركا 8 أكتوبر، والاستعداد لتجنب «توسيع أو تعميق الاشتباكات»، فى محاولة لتحييد واشنطن.
(3) رئيسة الوزراء الإسرائيلية «جولدا مائير» تدخل على خط الأزمة 9 أكتوبر.. من خلال تصريح تعرب من خلاله عن استعدادها الجلوس معاً على «مائدة التفاوض» للبحث فى إجراءات التسوية السياسية.
(4) تطوير الهجوم شرقاً 14 أكتوبر لتخفيف الضغط عن سوريا، مع ضغوط من القوى الدولية المعنية لوقف إطلاق النار على الخطوط الحالية، ومصر تستمر فى رفضها إلا بعد الانسحاب من سيناء بالكامل.
(5) فى مرحلة الهجوم المضاد الإسرائيلى 16 أكتوبر (ثغرة الدفرسوار).. توافق مصر على وقف إطلاق النار قبل أن يستفحل حجم الاختراق.. وحفاظاً على حجم انتصارها.. كمنطلق للعمل السياسي، وبذلك تم التنازل عن شرط الانسحاب المسبق الإسرائيلي، مع استمرار رفض «السادات» سحب قوات من الشرق لمواجهة الثغرة.
(6) فى المرحلة الأخيرة من القتال (توسيع الثغرة ومحاصرة الجيش الثالث).. يبدأ «السادات» اتصالاته بالرئيس الأميركي، ويلجأ إلى طلب قوات من القوتين العظميين للنزول فى منطقة السويس، إلا أن عدم التنسيق المصرى- الروسي.. يؤدى إلى عدم فعالية المواجهة مع أميركا التى ترمى بثقلها العسكرى من خلف إسرائيل، ولتتراجع من ثم مصر وروسيا عن حافة الصدام مع الولايات المتحدة.. التى تهيمن منذئذ على الموقف لسنوات مقبلة.
● فى كل ذلك، والسادات يدير المعركة وحده.
استقراء آراء كبار القادة العسكريين/ السياسيين عن الإدارة الميدانية للحرب
● سلامة قرار رفض وقف إطلاق النار.. خشية استعادة إسرائيل المبادأة، كما حدث عام 1948.
● الوقفة التعبوية تمثل التسليم بمبادرة فبراير 1971، وتوفر لإسرائيل الفرصة للحشد على جبهة السويس.
● قرار تطوير العمليات فى 14 أكتوبر يجيء متأخراً، ولا يركز على محور رئيس واحد أو يضمن التفوق الجوي… ولا تقوده قيادة خاصة غير قيادتى الجيشين.. ولا يتضمن إعادة تكوين احتياطى جديد يحل محل الاحتياطى المخصص للتطوير، ولكن العملية ساعدت على تحويل المجهود الجوى الإسرائيلى من الجولان إلى سيناء.. بينما كانت إسرائيل تستعد لمعركة برية تعرضية على جبهة السويس.
● وفى نهاية 14 أكتوبر، كان من الضرورى إجراء عملية «إعادة تجميع لتحقيق التوازن للجبهة».
● فى مرحلة الاختراق كانت المعركة تقليدية.. ولكن غيبة المعلومات الدقيقة- حول الهجوم واحتمالات تطوره- إلى عدم وجود القوات المناسبة للتصدى له.. وتفاقم خلافات فى القياد العامة، أضاعت الفرصة لتصفية سريعة للاختراق.
● فى مرحلة الانطلاق، فشل الإسرائيليون أمام الإسماعيلية، ولعدة مرات أمام السويس.. أعطى علامة على قدر الإنهاك الذى لحق بهم نتيجة المعارك.. وكان من الممكن أن يمثل نقطة مفصلية لانتزاع المبادرة ومواصلة القتال.
ثالثاً: كان لتأخير إقحام القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية العربية والسوفيتية بسيناء- وعدم كفايتها.. أو التنسيق بينها والقدرات المصرية والسورية، من الأسباب الخارجية لتحول مصير المعركة.