منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين، وبالتزامن مع استقلال كل من ليبيا (1950) ومصر (1954) إلى السودان (1956)، إذ تتفاعل فى ثلاثتهم كل من الأوضاع الداخلية مع التدخلات الأجنبية.. لتعويق التواصل- المتاخم- لما يعرف بـ«المثلث الذهبى»، ذات الوضعية الجيوسياسية والاقتصادية الحاكمة التى تتوسط دول ما بين الساحل والصحراء، مصر وليبيا المشاطئتان لسواحل البحر المتوسط مع ظهيرهما الصحراوى إلى السودان، مفتاح أفريقيا والقرن الأفريقى، حيث شهدت تلك «الترويكا» العربية- الأفريقية خلال العقود السبعة الأخيرة.. جملة من التطورات الدراماتيكية، تهدف لإضعافها وإلى عزل مصر عن كل من امتدادها المغاربى والأفريقى، بسيان.
إلى ذلك، وفى إطار مواجهة مصر تحديات سنوات التصدى للهجمة الصهيونية/ الإمبريالية 67 – 1973، إذ بكل من الجيشين السودانى والليبى ينطلقان إلى حركتين عسكريتين- بفارق عام- نهاية الستينيات، قبل أن تتجه الدول الثلاث إلى التجمع فيما عرف بـ«ميثاق طرابلس» 1970، إلا أن رحيل الرئيس «عبد الناصر» فى سبتمبر.. أفقد المقاربة الاستراتيجية زخمها المأمول، حيث تراجع السودان عن الانضمام إلى «اتحاد الجمهوريات العربية»، مصر- ليبيا- سوريا، 1971 فيما ألحت القيادة الليبية لأسبابها نحو إبرام «الوحدة الاندماجية» مع مصر 1972، إلا أن تفاوت السرعات بينهما، من حيث الأولوية المصرية لمعركتها مع إسرائيل 1973، حالت دون قبولها الضغط الليبى لإعلان الوحدة فى يوليو (المسيرة الليبية)، إضافة إلى ما شاب قيادتى البلدين من غيرة دبلوماسية مفتعلة تتعلق بزعامة دولة الوحدة المزمعة (شعب بلا قائد «مصر» يستعوضه قائد بلا شعب «ليبيا»)، تغذيها أجندة أجنبية، إلى جانب تركيبات نخبوية فى القاهرة وطرابلس، الأمر الذى لم يحل فحسب دون علاقات ثنائية مستقرة، بل أدى إلى تطورها إلى مستوى الصدام العسكرى على الحدود بين البلدين 1977، ولينغلق منذئذ ملف العلاقات المصرية- الليبية على كثير من القيوح والبثور، لم يجر البدء فى تطهيرها إلا خلال التسعينيات، قبل عقد ونيف من قيام الثورة فى ليبيا 2011، بالتوازى مع الثورة فى مصر… حيث سيطرت الجماعات (الجهادية) على الحكم فى البلدين، قبل أن تنتفض مصر 2013 لتصحيح أوضاعها، بما فى ذلك إلقاء ثقلها الدبلوماسى واللوجيستى والعسكرى إلى جانب الجيش الوطنى الليبى لتحرير طرابلس العاصمة (وجوارها) من الميليشيات المسلحة التى تتلقى دعماً غير محدود من الخارج، ذلك لتأكيد التلاحم مجدداً بين الدولتين اللتين تمثلان قاعدة المثلث الذهبى مع رأسهما السودانى، عند الجنوب الغربى لمصر.
على صعيد مواز، لم يكن السودان منذ استقلاله منتصف الخمسينيات أقل معاناة فى مواجهة الضغوط والتحديات لمنع تواصله مع الطرفين الآخرين للمثلث الذهبى، ما بين تناوب الحزبيين والعسكريين الحكم، ثلاثة إلى ثلاثة 1958 – 1968 – 1989، ما انعكس إلى حالة مزمنة من عدم الاستقرار للأوضاع الداخلية للسودان، وعبر تحركاته الخارجية، بما فيها العلاقات المصرية- السودانية، ذلك فى مسيرة طويلة من الإخفاقات، من دارفور إلى إيواء زعماء الإرهاب الدوليين (كارلوس- بن لادن) إلى انفصال جنوب السودان عن شماله، إلى التنكيل بالقامات الوطنية، وليس آخراً بالقلاقل العبثية مع مصر فى العقود الثلاثة الأخيرة، ذلك من قبل (محاولة اغتيال الرئيس فى أديس أبابا مثالاً)قبل أن تفرز الثورة السودانية فى مطلع 2019، خطوة تاريخية فى أغسطس.. وصفها ممثل الاتحاد الأفريقى بـ«الإنجاز التاريخى العظيم»، إذ وقعت الأطراف السودانية وثيقة السلم المجتمعى، لإحلال السلام فى غضون ستة أشهر، تحت قيادة مشتركة لجبهة وطنية واحدة من السياسيين والعسكريين، يتمثل فيها المرأة، ومختلف الأديان والطوائف، ذلك لمواجهة تحديات الحكم الانتقالى عقب الإعلان الدستورى 17 أغسطس، ما يشير إلى مرحلة جديدة للسودان من أجل تأسيس نظام حكم ديمقراطى يسع الجميع، فى المركز والأطراف، بحيث إن صدقت النوايا.. فإن الخطوط العريضة تشير إلى سودان جديد متصالح مع نفسه، ومع الآخرين فى محيطه الاستراتيجى، فى صدارته المثلث الذهبى مع كل من مصر وليبيا.
خلاصة القول، سوف يبقى جناحا مصر من جهة الغرب والجنوب، بمثابة معدل القياس لمعاناتها أو ازدهارها، وفقاً لقدراتها مع جارتيها على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، بسيان، وعلى مختلف الأصعدة السياسية والتنموية والعسكرية، ناهيك عن الدور الواجب للعمل الثقافى والفنى لدعم أواصر التقارب السياسى والحضارى فيما بينهم، وفى إطار من «ضرورة استراتيجية» تساند فيها أحجار الدومينو لثلاثتهم، بشكل دائم ومتبادل.