فلسفة العقاد من شعره
ــــ 1 ــــ
جعل أديب الفلاسفة الدكتور زكى نجيب محمود، جعل غايته فى الفصل الرابع الذى خصه للأستاذ العقاد فى كتابه «مع الشعراء» استقصاء «فلسفة العقاد من شعره».
تستطيع الفلسفة والشعر أن يتباينا فيما يراه أشد ما يكون التباين.
كما يستطيعان أن يتقاربا حتى ليوشك أن يختلط الأمر على الناظر إليهما، فيحسب الشعر فلسفة، والفلسفة شعرًا.
للفلسفة معنيان : أن تُفهم بمعنى الحكمة التى يستخلصها صاحبها من تجربته الحية كما مارسها وعاناها فى حياته.
وإما أن تُفهم بمعنى التجريدات الصورية التى يستخلصها المفكر من مفاهيم العلم وقضاياه، ابتغاء أن يصل إلى المبادئ الأولى.
فإذا كانت الفلسفة بالمعنى الأول كاشفة عن سرائر الكاتب.
فإنها فى المعنى الثانى ذكية ولكنها لا تفصح عن شىء من خوالج السريرة.
بالمعنى الأول حياة ومضمونها.
وبالمعنى الثانى فكر وصورته.
بالمعنى الأول هى قلب ولسان وجنان ووجدان.
وبالمعنى الثانى هى ذهن وذكاء ومنطق وتحليل.
وهى بالمعنين معًا تعمم الأحكام.
لكن التعميم فى الحالة الأولى يرتكز على خبرة حياة شخصية لدى الفرد.
أما التعميم فى الحالة الثانية فلا ذكر فيه للأفراد.
ويتباعد الشعر والفلسفة أشد ما يكون التباعد حين تدور الفلسفة فى مثل هذا التجريد.
ويتقاربان حين تكون الفلسفة حكمة حياة عند صاحبها.
ويتباعدان حين تروم الفلسفة أن تقول الحق خالصًا لا جمال فيه، بينما يريد الشعر أن يصوغ الجمال خالصًا لا يعنى إلاَّ به.
ولكنهما يتقاربان حين يريد الفيلسوف أن يسوق الحق مكسوًّا بثوب الجمال، أو حين يريد الشاعر أن يصوغ الجمال منطويًا على حق.
ومن قبيل الفلاسفة بهذا المعنى، كان العقاد الفيلسوف فيما يرى الدكتور زكى نجيب محمود ؛ ومن قبيل الشعراء بهذا المعنى كان أيضًا العقاد الشاعر.
كان العقاد فيلسوفًا وكان شاعرًا.
ــــ 2 ــــ
يدور فى بلادنا الفكر الفلسفى الحديث على محورين : الحرية، والعقل.
الحرية لا تكون إلا َّفكاكًا من القيود.
والعقل لا يكون إلاَّ التزامًا للقواعد والقيود.
فكيف إذن فيما يطرح الدكتور زكى نجيب يكون الجمع بين «فكاك الحرية» وانطلاقتها، و«قيود العقل» وقواعده ؟
كان أسلافنا الفلاسفة المسلمون يدور محور نشاطهم حول التوفيق بين العقل والنقل.
فصار محور نشاطنا اليوم هو التوفيق بين العقل والحرية.
من القبيل الأول كان استبداد المستبدين ما بين مستعمر وحاكم.
ومن القبيل الثانى كانت أغلال الجهل والخرافة.
واستلزمت هذه الازدواجية معولين ينصرف كل منهما إلى قبيل من القبيلين.
وهكذا كان الأستاذ العقاد فيما يرى الدكتور زكى نجيب محمود، كان فى مقدمة الطليعة التى أضاءت سراج الفكرتين معًا.. أضاءهما كاتبًا ناثرًا، وانبعث ضوؤهما عنده شاعرًا.
ــــ 3 ــــ
على أن فكرتى الحرية والعقل تلتقيان على يدى الأستاذ العقاد، حتى لا يمكن تصور إحداهما دون الأخرى.
ومن آرائه فيما يضيف أن الحياة بأسرها عمل فنى، تسوده الأصول نفسها التى تحكم جميع الأعمال الفنية على اختلافها.. تحكمها الأصول التى تحكم بيت الشعر، ولحن الموسيقى، وصورة المصور أو الرسام أو النحات.
فحرية الفن أو حرية الحياة لا تكون بغير قواعد تحكم سيرها.
يقول الأستاذ العقاد فيما ينقله إلينا الدكتور زكى نجيب محمود :
«انظر إلى بيت الشعر وتصرف الشاعر فيه، إنه مَثَلٌ حق لما ينبغى أن تكون عليه الحياة بين قوانين الضرورة وحرية الجمال، فهو قيود شتى من وزن وقافية واطراد وانسجام، غير أن الشاعر يعرب عن طلاقة نفس لا حد لها حين يخطر بين هذه السدود، ويطفر من فوقها طفرة النشاط، ويطير بالخيال فى عالم لا قائمة فيه للعقبات والعراقيل، وهكذا فلتكن الحياة وعلى هذا المعنى فلنفهم ضروراتها وقوانينها، فما الضرورات والقوانين إلاَّ القالب الذى تحصر فيه الحياة عند صبها وصياغتها ليكون لها حيز محدود فى هذا الوجود، ولتسلم من العدم المطلوب الذى تصير بها الفوضى إليه وإلاَّ فتصور عالمًا لا موانع فيه ولا أثقال ثم انظر ماذا لعله يكون؟ إنه لا يكون إلاَّ فضاء بغير فاصل، أو هيولى بغير تكوين.. فلنعلم كيف نحمل الحياة بقيودها، ونجرى بها كأنها لا تعوقنا عن بلوغ ما نريد».
وهكذا تلتقى عند الأستاذ العقاد الحرية والعقل أو القيد فى كيان واحد. من قيود العقل قيد التجارب التى تحد من الهوس والاندفاع، وقيد الحب. وفيه يقول الأستاذ العقاد:
وهذا إلى قيد المحبة شاخـص
وفى الحب قيد الجامح المتوثـب
ينادى : أنلنى القيد يا من تصوغه
ففى القيد من سجن الطلاقة مهربى
أدره على لبى وروحى ومهجتى وطوق به كفى وجيدى ومنـكــبـى
ومن هذه القيود قيد الجاه والسلطان، وقيد الأبوة:
ورُبّ عقيم حطم العقم قيده
يحن إلى القيد الثقيل على الأبواب
وهكذا الحياة كالنهر الدافق، توضع له الجسور والسدود، فيستقيم جريانه فى مجراه.
[email protected]
www. ragai2009.com