الشعر العربى والمذاهب الغربية الحديثة (5)

الشعر العربى  والمذاهب الغربية الحديثة (5)
رجائى عطية

رجائى عطية

6:23 ص, الأثنين, 24 يونيو 19

على كثرة العناوين المتصدرة للدعوات فى الغرب، وتفرّعها تفرّعًا واسعًا، إلاَّ أنه لا يخرج من هذه المذاهب المتعددة ـ مذهب جاد يناط به عمل من أعمال البناء والإصلاح فى عالم الفنون.

وعلى تعدد هذه العناوين فى الغرب، يلاحظ عليها الأستاذ العقاد أنه لا لبس على الإطلاق بين مذاهب الجد ومذاهب الهزل فى الآداب الغربية، فمذاهب الجد تدعو إلى البناء وتقوم به ويعيش ما تبنيه، أما مذاهب الهزل فلا تتحدث بشىء غير الهدم والإلغاء.. فلا لون ولا شبه ولا رسم ولا قاعدة فى التصوير، ولا لفظ ولا معنى ولا منطق ولا مدلول فى الشعر والنثر، ومن الحظ الحسن أن تقصر هذه الدعوى عن الفنون التى ترتبط بها ضرورات المعيشة والاجتماع، فإنها لو تناولتها لنَجَمَ عن ذلك خلط كبير.

ومن هذه المذاهب الهزلية ـ فيما يورد الأستاذ العقاد ـ ما يُطلق عليه اسم المستقبلية «Futurism» أو فوق الواقعية «Surrealism أو الذئبية Fauvism» بل منها ما يسمى بمدرسة التأتأة «Daaism» ويقول أصحابه إنهم اختاروا له هذا الاسم من أول تتآت الطفل «Da Da» وتُطلق أحيانًا على حصان الخشب ليسهل النطق به على ألسنة الأطفال.

ومؤدى مذهب هؤلاء الدعاة ـ أن التعبير الصحيح على النفس الإنسانية إنما يرجع به إلى صورة الطفولة ورموز الأحلام وخفايا الوعى الباطن، كما تبدو للحالم فى المنام، أو كما يرسلها النطاق عفوًا بغير تأمل وبغير انتباه !

ومن هؤلاء الملفقين للمذاهب من يختار اللفظة ويسأل عن معناها، فيسخر من السائل لأنه يبحث عن المعنى ولا يكتفى بوقع اللفظة فى الأذن أو من منظرها للعين القارئة.

ويستعرض الأستاذ العقاد عناوين بعض هذه المذاهب، وما شابَها، ليخلص إلى أنها تمثل جانب السخافة الذى لابد يطرأ فى بيئة يباح فيها القول لكل قائل والقراءة لكل قارئ، ولا يخجل فيها العاجز من عجزه، ولا اللجوج من لجاجته، وهم جميعًا فى غمرةٍ من محن الحروب والفتن والقلاقل والآفات.

ولا يدعو الأستاذ العقاد إلى إهمال هذه السخافة وعدم الإلتفات إليها، بل واجبٌ أن تُدْرس كما تُدرس عوارض الأمراض والعلل والنكبات، لا للإقتداء !

ولا يفوته فى معرض الكلام عن هذا الشطط الفنى ـ ملاحظة وثيقة الصلة بموضوع الخلط الذى يقال عنه إنه هو الفن الصحيح، أو أنه التعبير الصادق ـ دون غيره ـ عن الوعى الباطن والسريرة الإنسانية فى أعماقها « اللامنطقية» على حد تعبيرهم.

فالخلط الهاذر لم يخلقه دعاة «اللامنطقية»، ولكنهم خلقوا شيئًا واحدًا فيه لم يسبقهم أحدٌ إليه، وهو إطلاق العناوين العلمية عليه واستعارتها من دراسات التحليل النفسى، أو من دراسات العلوم الطبيعية، فيجنح بالبعض هواه أحيانًا إلى رفع الكلفة وإطراح الحشمة، وإلى الابتذال فى اللفظ أو المعنى أو فى كليهما، فيسترسل فى الهذر واللغو، وينسب إلى هذه النزوات شعر المجون والهزل وشعر الإباحة والجموح.

وينسب إليه كذلك ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ ضرب من الشعر الذى يخيّل إلى الناس أنه محدثهم بالحِِكم والأمثال، وهو فى أسلوبه الهازل ساخر بضروب الحكمة والمثل، كما صنع ابن سورون البيشيغاوى (810 ـ 868 هـ) فى قصيدته البائية التى يقول فيها:

عجب عجب عجب عجب
بقر تمشى ولها ذنب
ولها فى بزبزها لبن
يبدو للناس إذا حلبوا
لا تغضب يومًا إن شتمت
والناس إذا شتموا غضبوا

وأدخل من هذا فى باب « اللامنطقية»، مذهب من مذاهب الزجل فى اللغة الدارجة ـ يعاقبون بينه وبين الأدوار المقصودة، فيبدءون بالدور العاقل ويتبعونه بالدور المجنون إلى نهاية الزجل، ويحفظ من هذه الأزجال كثير فى مجموعات. هذا والأجيال القريبة، من أمثلتها فى كتاب « ترويح النفوس» لـ « حسن الآلاتى» زجل يقول فيه:

كسرت بطيخة رأيت العجب
فى وسطها أربع مداين كبار
وفى المداين خلق مثل البقر
فى كل واحدة أربع قواعى خضار
وأحيانًا يقسمون الأدوار إلى دور

صاح دور سكران، أو يصوغون فيها المفارقات على ألسنة الصبيان، كما يجرى على ألسنة العامة:
يا ليل يا عين معرفش ا كذب
والصفدعة شايلة المركب

إلى أشباه هذه «اللامنطقيات» المتواضعة، والتى لا تعدو عندهم أن تكون «متنفسًا» يستبيحونه إلى حين .
ومما يُحمد فى أطوار الشعر العربى الحديث ـ أن هذه المذاهب لم يكن لها تأثير ثابت فيه.

أما المذاهب التى كان لها أثرها المحمود ، فهى مذاهب الجد والبناء .

وعلى الجملةِ يتقدم الشعر عندنا ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ دون أن تعتريه النكسة أو الجمود، إلاَّ انه يعانى من أطوار العصر ما يعانيه كل شعر فى أنحاء العالم.. فهو الآن لا يستأثر وحده بميدان العاطفة والخيال، بل صارت تشاركه الصور المتحركة والقصص المطولة والنوادر الموجزة ومناظر التمثيل ومسموعات الإذاعة وأخبار الصحافة ومبدعات الفنون التى تيسرت لها أسباب العرض فى الأندية والمنازل ومجامع الناس فى كل مكان.

على أنها ـ فيما يختم هذا البحث القيّم ـ مشاركة عارضة، طال الأمد أو قصر، فإذا عاد الشعر إلى الاستقلال بمجاله بين الفنون، فقد يعود أقوى مما كان.

[email protected]
www. ragai2009.com