«بين الأستاذ وتلميذه»
والأستاذ هنا هو جميل، أما تلميذه فهو «كثير» أو «كثير عزة» فيما اشتهر به، فقد تلاقيا يومًا فتذاكر النسيب، فقال كثير:
يا جميل! أترى بثينة لم تسمع بقولك:
يقيك جميل كل سوء أماله لديك حديث أو إليك رسول؟
وقد قلت فى حبى لكم وصبابتى محاسن شعر ذكرهن يطول
فإن لم يكن قولى رضاك فعلمى نسيم الصبا يا بثن كيف أقول
فما غاب عن عينى خيالك لحظة ولا زال عنها والخيال يزول
فقال جميل : أترى عزة يا كثير لم تسمع بقولك:
يقول العدا يا عَزُّ قد حال دونكم شجاع على ظهر الطريق مصمم
فقلت لها والله لو كان دونكم جهنم ما راعت فؤادى جهنم
وكيف يروع القلب يا عز رائع ووجهك فى الظلماء للسفر معلم
وما ظلمتك النفس يا عز فى الهوى فلا تنقمى حبى فما فيه منقم
ثم بكيا من الليل وانصرفا…
«جَلتَها أو لم تجلُها؟»
كان أهل بثينة يأتمنون عليها عجوزًا منهم يقال لها أم منظور، فجاءها جميل يسألها أن تريه بثينة. فقالت : لا والله.. لا أفعل وقد ائتمنونى عليها. فتوعدها بأن يضرها..
قالت: المضرة والله فى أن أريك إياها. فخرج من عندها وهو يقول:
ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت بالحِجْر يوم جلتها أم منظور
ولا انسلابتها خُرسًا جبائرها إلىّ من ساقط الأرواق مستور
(الجبائر هى الأساور، والأرواق جمع وروق وهو الفسطاط)
فما كان إلا قليل حتى انتهى إليهم هذان البيتان فاتهموا أم منظور وهى تقسم لهم فلا يصدقونها!
وقيل فى رواية أخرى إن مصعب بن الزبير أنشد هذان البيتان فقال: لوددت أنى عرفت كيف جلتها؟ فأخبروه أن أم منظور هذه حية، فكتب فى حملها إليه مكرمة، وسألها عن الجلوة
فقالت: ألبستها قلادة بلح ومخنقة بلح واسطتها تفاحة، وضفرت شعرها، وجعلت فى فرقها شيئًا من الخلوق أى الطيب ومر بنا جميل راكبًا ناقته، فجعل ينظر إليها بمؤخر عينيه، ويلتفت إليها حتى غاب عنا. فأقسم عليها مصعب لتجلون امرأته عائشة بنت طلحة مثل ما جلت بثينة، ففعلت. وركب مصعب ناقته وأقبل عليها وجعل ينظر إلى عائشة بمؤخر عينيه ويسير حتى غاب عنهما… ثم رجع.
«يتهمها ولا يُتهم بأمَه»
أشاع أهل بثينة أن جميلاً إنما يتبع أَمَةً لهم، ليدافعوا عنهم الوصمة ويصموه، فواعد جميل بثينة حتى لقيها ببرقاء ذى ضال، وتحادثا ليلا ً طويلا حتى أسحرا، فاقترح عليها أن ترقد فقالت: ما شئت! على أنى خائفة أن نكون قد أصبحنا، فوسدها جانبه ثم اضطجعا ونامت، وانسل مستويًا على راحلته، وأصبحت فى مضجعها فرآها الحى راقدة عند مناخ راحلة جميل، وفى ذلك يقول :
فمن يك فى حبى بثينة يمترى فبرقاء ذى ضال علىّ شهيد
«لغة واحدة»
قال كثير: لقينى جميل مرة فسألنى: من أين أقبلت؟
قلت: من عند أبى الحبيبة أعنى بثينة
فسألنى: وإلى أين تمضى ؟
قلت: إلى الحبيبة أعنى عزة
فقال: لا بد أن ترجع عودك على بدئك فتستجد لى موعدا من بثينة.
فاستحييت أن أرجع وعهدى بها الساعة، وألح قائلا: لا بد من ذلك. فسألته: متى عهدك ببثينة؟ فقال: فى أول الصيف وقد وقعت سحابة بأسفل وادى الدوم، فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها. فلما أبصرتنى أنكرتنى، فضربت بيديها إلى ثوب فى الماء فالتحفت به، وعرفتنى الجارية فأعادت الثوب فى الماء، وتحدثنا حتى غابت الشمس، ثم سألتها الموعد، فأنبأتنى أن أهلها سائرون، ولم أجد أحدًا آمنه فأرسله إليها.
قال كثير: فاقترحت عليه أن آتى الحى، فأتمثل بأبيات من شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها، فوافقنى، وخرجت حتى أنخت بالقوم، فسألنى أبوها: ما ردك؟ قلت: ثلاثة أبيات عرضت لى، فأحببت أن أعرضها عليك، وأنشدته وبثينة تسمع:
فقلت لها يا عز أرسل صاحبى إليك رسولاً والموكل مرسل
بأن تجعلى بينى وبينك موعدًا وأن تأمرينى ما الذى فيه أفعل
وآخر عهدى منك يوم لقيتنى بأسفل وادى الدوم والثوب يُغسل
فضربت بثينة جانب خدرها وقالت: اخسأ، اخسأ. فقال أبوها: مَهْيَم يا بثينة! (مهيم كلمة يمانية معناها ما خطبك ؟ وماذا بك ؟ ) قالت: كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء الرابية. ثم صاحت بالجارية أبغينا من الدومات حطبًا لنذبح لكثير شاة ونشويها له!
فقلت: أنا أعجل من ذلك، ورحت إلى جميل فأخبرته، فعلم أن الموعد الدومات، وخرجنا حتى أتيناها، ثم جاءت بثينة مع بنات خالتها الثلاث، فما برحنا حتى برق الصبح، فما رأيت مجلسًا قط أحسن من ذلك، ولا رأيت مثل علم أحدهما بضمير الآخر.
[email protected]
www. ragai2009.com