عن ملاحقة جميل من ذوى بثينة، الذين ضعفوا عن حرب قبيلته، كعجزهم عن الدية إن نالوا منه، تحدث جميل فى بعض قصائده. قال:
فليت رجالاً فيك قد نذروا دمى
وهمُّوا بقتلى يا بثينُ لقونـى
إذا ما رأونى طالعًا من ثنية
يقولون من هذا وقد عرفونى
يقولون لى أهلاً وسهلاً ومرحبًا
ولو ظفروا بى خاليًا قتلونى
وكيف ولا توفى دماؤهم دمى ولا مالهم ذو ندهة فيدونى
( الندهة هى الكثرة من الماشية. فيدونى: يؤدوا ديتى )
أجل كان جميل فى حاجة إلى الاقتحام، ولكنه كان سهلاً عليه موافقًا لحاله وحال بثينة وأهلها، فاقتحم آمنًا، ولكن حينما جاءت المطاردة من السلطان وإهدار دمه بأمره، وهو ما لا تقدر عليه قبيلته، رجع إلى الأناة وهرب إلى اليمن فيما قيل.
وليس يُطلب من جميل ولا من عاشق فى موضعه أن يكافح السلطان بشجاعته.
إلاَّ أنه لم تكن به حاجة ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ إلى أكثر من شجاعته التمثيلية فى حقيقة الواقع.
على أن هذه الشجاعة التمثيلية كافية ـ فيما يقول ـ لاصطباغ شعره بصبغة الفحولة التى تظهر فيه ولا تظهر فى شعر ابن أبى ربيعة.
على أنه إذا تركنا هذا الجانب، للبحث عن حقيقته، فإنه يلوح للأستاذ العقاد أنه كان شجاعًا بين قومه ككل بدوى يشجع فى حمى الجماعة وذمار القبيلة.
بعض أخباره
إذا كانت أخبار عمر بن أبى ربيعة مفهومة من ديوانه إلاَّ بعض التفاصيل، فإنه لا غناء فى جميع أخبار جميل عن الرجوع إلى الرواة والناقلين، لأن ما نظمه منها فى ديوانه قليل.
ولعل سبب ذلك أن عمر كان متنقلاً بين الحسان بغزله، مما يولد أخبارًا يدور بها نظمه، أما جميل فعاطفته خبر واحد، ولا تأتيه الأخبار التى ينظم فيها إلاَّ حين يطرأ طارئ يغير مجرى حياته الرتيبة. كما قال حينما خرج عليه أهل بثينة:
ولست بناس أهلها حين أقبلوا
وجالوا علينا بالسيوف وطّوفوا
وقالوا جميل بات فى الحى عندها
وقد جردوا أسيافهم ثم وقّفوا
أو كما قال حين وقف متذكرًا على الأطلال:
بينما هن بالأراك معًــا
إذ بدا راكب علـى جمله
فتناظرْن ثم قلن لهــا
أكرميه حييت فى نزلــه
على أن الأستاذ العقاد يتقصى بعض ما ورد فى شعر جميل ويزكى الأخبار التى نقلها الرواة عنه وعن بثينة.
ومن أخباره، فيما تقصّاه:
«بين نظيرين»
والنظيران هنا هما جميل وعمر بن أبى ربيعة.
فيروى أن عمر بن أبى ربيعة لقى جميلاً فى طريقه إلى الشام، فاستنشده من شعره فأسمعه من قوله:
خليلىّ فيما عشتما هل رأيتما
قتيلا بكى من حب قاتله قبلـى
ثم قال له: أنشدنى أنت يا أبا الخطاب، فأسمعه قصيدته العينية التى أولها:
ألم تسأل الأطلال والمتربعـا
ببطن حُليات دوارس بلقعــا
فلما بلغ إلى قوله:
فلما تواقفنا وسلمت أشرقت
وجوه زهاها الحسن أن تنقنعا
تبا لهن بالعرفان لما عرفنى
وقلنا امرؤ باغ أكل وأوضعا
وقرّبن أسباب الهوى لمتيم
يقيس زرعًا كلما قسن أصبعا
صاح جميل واستخذى وقال: ألاَ إن النسيب أُخذ من هذا، وما أنشد بعد ذلك حرفًا.
فقال له عمر: اذهب بنا إلى بثينة حتى نسلم عليها. فامتنع جميل واعتذر بإهدار السلطان دمه إن وجدوه عندها، وأشار له إلى أبياتها. فتقدم عمر حتى وقف على الأبيات وتأنّس حتى كلِّم، فقال: يا جارية أنا عمر بن أبى ربيعة فأعلمى بثينة مكانى، فخرجت إليه بثينة فى مباذلها وهى تقول: والله يا عمر لا أكون من نسائك اللائى يزعمن أن قتلهن الوجد بك، فانكسر عمر، ونظر فإذا امرأة أدماء طوالة.
[email protected]
www. ragai2009.com