نواصل مناقشة مقولة ليبرالية، ترى أن الحوار والترغيب، يقويان المعتدلين فى صفوف الأطراف المتصارعة، و يضعفان المتشددين، لا سيما فى الأنظمة العقائدية. ومقولات مرتبطة مثل «الحوار دائما أفضل من العنف» و«صلح سيء أحسن من حرب جيدة».
أولا نلفت النظر إلى ضرورة التمييز بين تقوية المعتدلين والتفاوض معهم، مصر وقعت اتفاق صلح مع إسرائيل أيام المتطرف الصقر مناحيم بيجين٬ وليس أيام الحمائم٬ فمن ناحية التفاوض مع الصقور إن كان ممكنا يقوى شرعية الاتفاق٬ ومن ناحية ثانية قد يدفعهم التفاوض إلى تقليل حدة تطرفهم، وهذا ما حدث مع بيجين٬ ولكنه قد لا يحدث فى أحوال أخري. هناك محددات كثيرة يجب أخذها فى الاعتبار… منها طبيعة المكسب والخسارة من جراء التفاوض ومن جراء توقيع الاتفاق. فهناك خسارة لا تعنى الكثير وأخرى مؤلمة٬ ولو اقتنع المتشدد أن الاتفاق مكسب واضح أو أنه هزيمة نكراء، سيميل إلى البقاء متشددا. وقلنا «سيميل» لأن المتشددين أصناف أشدهم خطرا العقائدى لأنه اقلهم ميلا إلى مراجعة الذات.
والتفاوض مع المعتدلين له محاذير٬ من ناحية قد لا يستطيعون تمرير صفقة٬ ومن ناحية أخرى قد يرغبون فى إثبات للمتشددين وللرأى العام فى بلادهم أن الاعتدال ليس تفريطا، فتجدهم يدافعون عن نفس المواقف المتشددة بلغة أكثر نعومة٬ وقد يستسهلون نوعا من الابتزاز، فيكثرون من طلب التنازلات المجانية من المفاوض الآخر، تحت شعار ضرورة تقويتهم٬ ونضيف أخيرا أن من تراه أنت معتدلا قد لا يكون كذلك٬ أو قد لا يكون كذلك فى القضايا موضوع التفاوض.
نقول إن البحث عن المعتدلين للتفاوض معهم ليس الحل إلا فى أحوال قليلة – من الأفضل فى تصورى دراسة موازين القوة فى النظام الآخر، وتحديد من يملك مفاتيح السلطة والقوة٬ من كفته راجحة٬ لا بأس من دعم المعتدلين إن كانت الصورة ضبابية، أو لو كانت المعركة الداخلية غير محسومة… مع الأخذ فى عين الاعتبار ما يلي… من ناحية قد يضعف دعمك من تدعمه، لأنك تعرضه للاتهام أنه عميلك٬ ومن ناحية ثانية لا تنسى أبدا أن الرأى العام، لا يعتد به فى الأنظمة العقائدية أو السلطوية. فى تلك الأنظمة المهم هو من يملك مفاتيح السلطة ـ المال والرجال والعتاد.
وأخيرا عليك أن تعى أن الحوار لا يغنى عن السعى لبناء موازين قوة فى صالحك٬ أو على الأقل لا تضر بك. المفاوض ليس فى محكمة تطبق القانون فى دولة فوق الأطراف وقادرة على إجبارهم على تنفيذ الحكم٬ ولكنه فى عالم لغته موازين القوة. لا نقول إن موقف القانون الدولى لا يؤثر على الموازين ولكنه ليس العامل الأهم، وفى أحوال كثيرة هو حمال أوجه.
قد يبدو هذا الكلام من البديهيات ولكن متابعة السياسة العالمية تثبت أنه لم يعد كذلك، وأن التفكير بالتمنى أصبح سمة غالبة.
المشكلة تكمن جزئيا فى تغلغل الفكر الليبرالى فى نسخه الساذجة٬ ولكن هناك عامل هام يلعب دورا كبيرا وهو ارتفاع التكلفة البشرية والمالية والاقتصادية للحروب وصعوبة إنهائها. ارتفعت تكلفة الحروب وما زالت٬ وقلت المكاسب منها٬ لم تستطع الولايات المتحدة تحقيق أهدافها فى العراق ولم تقض إسرائيل على حماس أو على حزب الله، ومنطقتنا غارقة فى حروب لا يعرف أحد كيفية إنهائها٬ لأن هناك من يستفيد منها. الحرب شبح يريد كل عاقل إبعاده٬ لأنه باب سهل فتحه وصعب إغلاقه إن فُتِح.
ولكن الحلول الوسطى قد تشجع الأطراف العقائدية على التغول، قال تشرشل «ذات مرة خيرتم بين العار والحرب، اخترتم العار وستشربون الحرب»
يتبع
- أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية