وقد يبدو على شعر جميل إذا قوبل بشعر عمر بن أبى ربيعة ـ أنه أفحل وأجزل فى الصناعة الشعرية وأجمل، إلاَّ أن ذلك فيما يرى الأستاذ العقاد التباس بين فحولة المزاج وفحولة الشعر، لا يثبت للتمحيص.
فمن المألوف أن يظهر الجد فى شعر العاشق لواحدة يعيرها كل قلبه وهواه، ولا يظهر هذا الجد فى شعر من يقضى زمانه فى التحدث إلى النساء والتنقل بغزله بينهن.
ويشبه الالتباس بين فحولة المزاج وفحولة الشعر ـ التباس آخر يعرض لكثير من المعجبين بنسيب جميل، فهو عندهم ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ إمام المحبين، وقد سئل عنه نُصيب فقال: ذاك إمام المحبين، وهل هدى الله عز وجل لما ترى إلاَّ بجميل؟
«وجائز أن يكون صدق الحب سببًا من أسباب جودة الشعر الذى يعبر عنه، ولكن صدق الحب وجودة التعبير يظلان بعد هذا شيئين مختلفين، فيصدق المحب ولا يجيد الشعر، ويجيد الشاعر ولا يبلغ مبلغ ذلك المحب الصادق فى وجده وشوقه ووفائه… إن أحدهما لسببًا للآخر بمعنى الحب والتعبير ولكنهما قد يفترقان كما يتفقان.
«وحقيقة الرأى الذى يدل عليه شعره ـ فيما يرى الأستاذ العقاد ـ أنه كان شاعرًا يجمع بين البلاغة والسهولة، ويرتقى فى الصناعة الشعرية مرتقى لا يعلو عليه شاعر من أبناء عصره، وهم على الإجمال فطريون فى هذه الصناعة لهم مزايا الفطرة وعيوبها فى آن، ولا سيما العيوب التى لها اتصال بكل صناعة من الصناعات.
«ومن مزايا الفطرة الصدق والبساطة وقرب الأداء، ومن عيوبها النقص والسذاجة وقلة الإتقان. ومن رأينا أن شعراء الجاهلية وشعراء القرن الأول للإسلام كانوا جميعًا أوفر الشعراء حظًّا من مزايا الفطرة وعيوبها على السواء. فهم أصحاب معنى مستقيم ولغة قوية وشعور لا بهرج فيه ولا التواء، وهم إلى جانب هذا مبتدئون متعثرون فى صوغ الشعر لم يصلوا بالقصيدة ولا بالأغنية إلى مبلغ الإتقان ووحدة المدلول، ولعلهم لم يبلغوا فى ضرب من الشعر مبلغه من الإتقان غير الرجز، لأنه مفكك بطبيعته لا يحتاج إلى تنسيق وانسجام.
«وما زال الإتقان الصناعى يزداد والشعور الفطرى ينقص حتى تناهيا زيادةً ونقصًا فى أواخر عهد العباسيين، فأصبح الإفراط فى الصناعة بهرجًا والإفراط فى ضعف الشعور الفطرى تكلفًا واصطناعًا، وتلاقى هذا وذاك فى الغثاثة المزيفة التى لا هى صناعة جيدة ولا فطرة جيدة، ولكنها مسخ للصناعة والفطرة لا خير فيه. «
فالشعراء العباسيون فيما يتمثل الأستاذ العقاد ـ أجود صناعة من الشعراء الأمويين والمخضرمين، وأنأى منهم عن استقامة الفطرة وبساطة التعبير.
وشأن جميل فى هذا كشأن غيره من أبناء عصره وسابقيه.. يأتى بالكلام السهل البسيط لأن معناه سهل بسيط، ولأنه يملك القدرة الفنية ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ التى يعمد بها إلى المعانى المركبة فتسلس له.
ومع ذلك فقلما تجاوز الأبيات فى القصيدة الواحدة واعتمد الإطالة إلاَّ وتعثر والتفت بمن يتحدث عنه بين الخطاب والغياب وضمير المفرد وضمير الجمع فى نفس واحد، وقد يخطئ فى قواعد اللغة أو يتجوز فى أبيات غير قليلة، وأورد الأستاذ العقاد بعضًا من هذا وتلك معقبًا بأنه فى هذا هو وعمر بن أبى ربيعة وغيرهما من شعراء عصرهما سواءٌ أو متقاربون.
● ● ●
وفى حيز هذه القدرة الفنية ـ فيما يضيف الأستاذ العقاد ـ يبدع غاية الإبداع الذى يتاح لشاعر قديم أو حديث، فلا يقول شاعر فى البيت والبيتين أو الأبيات القلائل أبلغ من قوله فى تعذر نسيان الحبيب:
ولو تركت عقلى معى ما طلبتها
ولكن طلابيها لما فات من عقلى
أو قوله لمن يقدحن فى صاحبته ليحللن عنده فى محلها:
ولرب عارضة علينا وصلها بالجد تخلطه بقول الهازل
فأجبتها بالرفق بعد تستر حبى بثينة عن وصالك شاغلى
لو أن فى قلبى كقدر قلامة فضلاً وصلتك أو أتتك رسائلى
أو قوله فى حيرته بين حبه لغيرها وحب غيره من المحبين:
سلا كل ذى ود علمت مكانه وأنت بها حتى الممات موكل ّ
فما هكذا أحببت من كان قلبها ولا هكذا فيما مضى كنت تفعل
أو قوله فى الفراق:
كأنى سُقيت السم يوم تحملوا وجدَّ بهم حاد وحان مسير
على أننى بالبرق من نحو أرضها إذا قصرت عنه العيون بصير
وإنى إذا ما الريح يومًا تنسَّمت شآميةً عاد العظام فتور
ألا يا غراب البين لونك شاحب
وأنت بروعات الفراق جدير
أو قوله فى تمنى الصلة الدائمة بصاحبته حيًّا وميتًا ثم سخطه على لجاجة الحب بعد هذا:
أعوذ بك اللهم أن تشحط النوى بثينة فى أدنى حياتى ولا حشرى
وجاور إذا ما مت بينى وبينها فيا حبذا موتى إذا جاورت قبرى
عدمتك من حب ! أما منك راحة وما بك عنى من توان ولا فتر؟
[email protected]
www. ragai2009.com