منذ عدة أعوام، طرحت إحدى شركات الأجهزة المنزلية اسهمها للاكتتاب العام فى البورصة، وأصدرت بهذه المناسبة نشرة اكتتاب تتضمن معلومات أساسية عنها وموقفها المالى وطبيعة السوق الذى تعمل به وغيرها من المعلومات التى يشترط قانون سوق المال الإفصاح عنها لجمهور المستثمرين فى هذه النوعية من الطروحات.
وأتذكر أن النشرة قد نصت على أن الشركة تستحوذ على حصة تبلغ 28% من سوق أجهزة التليفزيونات المحلية، متقدمة بذلك على باقى الشركات المنافسة لها.
تصادف أن كنت فى هذا التوقيت أشارك مجموعة من الزملاء من بينهم ماكس رودينبك مراسل مجلة الايكونوميست، وسامى زيدان الصحفى التليفزيوني، والمخرج على بليل، فى الإعداد لنموذج تسويقى لبرنامج تليفزيونى جديد– لم ير النور– يتناول أهم أخبار وقصص البيزنيس كل أسبوع، وكان من البديهى أن يقع اختيارنا على هذا الطرح العام، كموضوع لقصتنا الخبرية الرئيسية فى البرنامج.
كانت الزاوية بالنسبة لى واضحة.. وهي: هل تنجح الشركة من خلال زيادة رأس المال التى قامت بها عبر البورصة فى زيادة حصتها السوقية؟ وهل يمكن أن يخرج عدد من منافسيها من السوق بسبب زيادة قدرتها التنافسية؟ ببساطة هل يمكن الطرح الشركة من أن ترفع حصتها السوقية من 28% إلى 50% أو أكثر على سبيل المثال؟
بدأنا المقابلات.. وسرعان ما توالت المفاجآت!
فقد تبين أن جميع الشركات المنافسة، لا تعترف بالحصص السوقية التى ذكرتها الشركة صاحبة الطرح فى نشرة الاكتتاب، وأن كل شركة منها لديها- بدورها- تقديرات مختلفة لحصتها وحصص المنافسين من السوق، وبالتالى أصبح لدينا كم من التقديرات يماثل عدد الشركات المتنافسة، يكاد كل منها يضع الشركة المتبنية له فى مركز الصدارة بالسوق!
كان الفخ الرئيسى الذى أوقعتنا فيه سذاجتنا اعتمادنا على المعلومات التى وردت فى نشرة الاكتتاب، وهى سذاجة قد يشفع لنا فيها، اعتقاد بريء قد جال بخاطرنا، وهو ضرورة صحة هذه المعلومات، طالما اعتمدتها الجهة الرقابية المنوط بها الإشراف على سوق المال!
تداعت القصة الخبرية وتبخر حلم البرنامج– كما سبقته العشرات من الأحلام– وترسخ فى الذهن سؤال حائر يبحث عن إجابة، كيف يمكن الحديث عن اقتصاد حر وبيئة تنافسية تشجع على الابتكار والإبداع فى ظل غياب الحد الأدنى من المعلومات الموثوق فى صحتها عن السوق بقطاعاته المختلفة؟
العدد الماضى استطاع زميلنا الشاب محمد أبوالفتوح أن ينفرد– لأول مرة فى تاريخ الصحافة الاقتصادية المصرية– بنشر تقرير دقيق موسع عن الحصص السوقية لشركات السيارات فى السوق المحلية، وبالمناسبة مثل هذه المعلومات متاحة بسهولة فى أسواق العالم المتقدمة، إلا أن الكثير من الشركات لدينا، مازال يعتبر هذه النوعية من المعلومات بمثابة أسرار الحرب المقدسة!
والغريب فى الأمر أنك كلما قابلت رجل أعمال، فليس هناك شيء يوقفه عن الإسهاب فى الحديث عن أهمية المعلومات والشفافية، إلا أن الواقع العملى يؤكد فى كثير من الأحوال أن عدداً كبيراً منهم، تنتابه حالة عكسية– ضد مسألة ضرورة توافر المعلومات–، إذا ما تضمنت المعلومات المنشورة، وفقاً لتصوره الضيق– ما يعتبره ماساً بمصالحه.
وسوق السيارات خير مثال على حالة الشيزوفرينيا السابقة.
فالجميع يتحدث عن أهمية المعلومات، إلا أن ذلك لم يمنعهم من وضع اتفاق جنتلمان فيما يبينهم، يقضى بعدم تسريب حقيقة أرقام المبيعات الخاصة بهم.
وبذلك تصبح الفرصة سانحة أمام كل منهم كى يوحى عبر حملاته الإعلانية، بأن شركته تحتل مكانة الصدارة والريادة فى السوق!
إنهم يريدون شفافية «تفصيل».. معلومات حسب «المقاس».. إحصائيات ملونة بهوى مصالح لا ترى أبعد من قدميها فى لحظة زمنية منعزلة عما دار قبلها وما سوف يحدث بعدها.
يعيبون على الحكومة حجبها للحقائق وللمعلومات حتى يطمئن أعضاؤها على مقاعدهم لأطول فترة ممكنة بعيداً عن المساءلة والمحاسبة ولا يتورعون هم– أنفسهم– عن تكرار نفس النمط من السلوك.
حتى المصطلحات يتم إعادة تحويلها وصنعها فى تماثل مدهش وغريب ما بين النموذج الحكومى ونموذج البيزنيس.. ريادة وإنجازات الحكومة المفبركة صحفياً ودعائياً، يقابلها ريادة وإنجازات مماثلة للشركة مفبركة إعلانياً!
هل نملك رفاهية تحمل استمرار مثل هذه الأساليب الغوغائية فى إدارة البيزنس؟!
نزعم أنه لا قبل لنا بتحمل ذلك، فالجات قادمة على الأبواب، وكذلك اتفاقيات التجارة الحرة مع العديد من القوى والكيانات الاقتصادية الكبرى، ومن لن يستطيع الصمود فى معركة المنافسة، فلن يشفع له فى البقاء إخفاء أرقام المبيعات، وحملات «الطنطة» الدعائية على أوراق الصحف والمجلات الملونة.
نعتقد أنه قد حان الوقت لتأسيس جهات ومراكز مستقلة، تستهدف جمع وتدقيق المعلومات عن القطاعات المختلفة، ليس فقط بغرض إمداد المتنافسين بحقيقة أوضاعهم فى السوق، ولكن أيضاً لتوفير رؤية واضحة للكيانات الرقابية المنظمة لهذه القطاعات، حتى تتدخل فى الوقت المناسب لحماية المستهلكين، بل ولحماية المتنافسين من بعضهم البعض، فى حال إذا ما رسمت المعلومات المتاحة، صورة مجسدة لممارسات أو أوضاع احتكارية.
وإلى أن يتم ذلك– وغيره العديد من الإجراءات والإصلاحات– ستظل حالة الشيزوفرينيا مستوطنة فى العقول، لا فرق فى ذلك بين من يدير القطاع الخاص أو العام أو حتى شركة تجميع سيارات لا تمثل حصتها فى السوق عُشر ريادتها الإعلانية.