كثيرة هى العبارات، التى نطالعها فى مطبوعاتنا، أو نسمعها تتردد فى العديد من برامجنا التليفزيونية والإذاعية، أو حتى فى محيط أحاديثنا العادية.. دون أن نلتفت إلى مضمونها القيمى والثقافى.
تعودنا مثلاً أن نسمع على ألسنة أفراد الطوائف والمهن الإبداعية- أو حتى غير الإبداعية- إذا ما تحدثوا عن مهنتهم جملاً من عينة «حتى لا تتحول المهنة إلى مهنة من لا مهنة له»، أو «ضرورة وضع ضوابط لممارسة المهنة».
والأغرب أننا قد تعودنا على الموافق عليها بل والمزايدة على قائلها- في بعض الأحيان- حتى يصيب الرعب قلب كل من يخول له عقله- ولو لثانية- التفكير في الاختلاف الجزئي أو الكلي، حول ما تحمله العبارات من مضامين، قد يطرح المنطق بعض التساؤلات.
أوليس الكاتب أو الإعلامي أو المحلل المالي أو الموسيقي، أو غيرهم من أصحاب المهن، الذين يرددون مثل هذه الجمل، يفترض كل منهم بقوله هذا عدداً من المسلمات الذاتية:
أولاً: أنه وحده المهنى الحق، ومن ثم فإنه وحده- أيضاً-، الذي يمتلك نافلة القول في الحكم على الآخرين.
ثانياً: أنه يستبعد عن نفسه أصلاً شبهة ممارسة التجاوزات، التي هى فقط ملتصقة في ذهنه بغيره.
ثالثاً: أن حق الإبداع مكفول، ولكنه محكوم بضوابط، يحتفظ لنفسه، بسلطة تحديدها مزاجيا، وقتما يشاء، حسب اللحظة والموقف والمصالح، وربما الحالة النفسية والعاطفية.
وهكذا يحتكر الكثيرون منا بدعوى صلاحهم، ما يمكن أن نطلق عليه حق تصنيف الآخر ومحاكمته وإدانته وتجريمه أخلاقياً ومهنياً، وبالرغم من كل هذا، فإنهم لديهم من الجرأة، ما يسمح لهم بوصف سلوكهم بالديمقراطي، فهم أيضاً يحتكرون الديمقراطية!.
وهنا قد يكون من حقنا أن نتعرض لهذه المسلمات- إن جاز أن نطلق عليها ذلك- ببعض النقد، ومناقشة بعض الأفكار الخاصة بتداعيات مضمونها الثقافي، ليس فقط على أمور مهنية ضيقة، تعرضنا لها في البداية كمجرد مدخل، وإنما على حقيقة قدرة- ندعيها- على التقدم والنمو والمنافسة في الأسواق الخارجية، في كافة المجالات الاقتصادية والثقافية.
ان الليبرالية الثقافية، بكل ماتعنيه من حرية اجتماعية وسياسية واقتصادية،والتي تقوم على التعددية واحترام الآخر، هي حجر الأساس الذي ينهض عليه، أي نظام يدعي رغبته في تطبيق منظومة الاقتصاد الحر، وهي آمر لا يمكن فرضه دفعة واحدة من أعلى، وانما عملية تعتمد على روافد تكوين الثقافة المحلية، من تعليم واعلام وخبرات مكتسبة، وبنية وطبيعة المؤسسات المختلفة القائمة في المجتمع، والخلاصة ان توافر الليبرالية التقافية، هو شرط ضروري وليس كافيا، لقيام اقتصاد السوق الحر.
- إن غياب هذه الثقافة الليبرالية يفرز أنماطاً من التفكير، تعبر فى حقيقتها عن التقوقع على الذات، وإفراط فى الثقة بالنفس ينم عن الجهل، رغم ادعاء أصحابه للمعرفة المطلقة، والأهم من ذلك أن هذه الأنماط تفرز مناخاً ثقافياً قمعياً، يقهر أى محاولة للإبداع أو التغيير فى كافة المجالات، ومن ثم تشكل عائقاً أمام محاولات الرقى والتقدم.
ثالثاً: إن تأثيرات ثقافة الاتجاه الواحد السائدة حالياً لها انعكاساتها المخيفة على مناخ الاقتصاد والأعمال، فهى تفرز فى كثير من الأحوال، رأياً عاماً سلبياً- يتم تشكيله بأسلوب القطيع-، تجاه أمور وقضايا، تبدو بديهية ومحسومة ظاهرياً، ولكنها تبدو غير ذلك على مستوى العقل الباطن للمجتمع، حين تطرح مشكلات وأزمات بعينها للمناقشة.
ومن بين هذه القضايا، مسألة حرية المنافسة لصالح المستهلك، ومكافحة الاحتكار الذي يضر به، ناهيك عما يلحقه من أذى بالمنتجات المصرية نفسها، ومدى قدرتها على المنافسة في الأسواق الخارجية.
على سبيل المثال- لا الحصر-، شهدنا مؤخراً خلق حالة من الاتفاق العام على ضرورة وضع اتفاقات- يمكن أن نصفها بالاحتكارية ونحن مطمئنو البال والخاطر-، تتضمن تحديد سعر أدنى لسلع كالأسمنت، يلتزم بالبيع به المنتجون بهامش ربح يصل فى بعض الأحيان إلى أكثر من %100 ، وذلك كله بسبب عدم قدرة بعض الشركات التي تسيطر عليها الدولة على تحمل أعباء المنافسة داخلياً.
ودون الأخذ فى الاعتبار مصلحة المستهلكين، الذين لم تنعكس عليهم حرب التنافس بين الشركات طوال الشهور الماضية إيجابياً، وفي المقابل دخلت فروق الأسعار إلى جيوب حفنة من التجار.
وهكذا بدلاً من البحث عن وسيلة لاستفادة المستهلك من حمى المنافسة، ولحماية الشركات المنتجة نفسها من التعرض لعقوبات إغراق فى الأسواق الخارجية، التي تسعى للتصدير إليها، في حالة بيعها لمنتجاتها في هذه الأسواق بأسعار تقل عن السوق المحلية.. اتخذ القرار بمنعها- المنافسة!.
وأمثلة أخرى متعددة، فكثير ما نسمع رجال أعمال يطالبون بالاستمرار في حماية الصناعة الوطنية- يقصدون صناعتهم الوطنية-، ثم لا يجدون غضاضة بعد ذلك في التحدث عن حرية المنافسة.
ونرى الحكومة تخرج علينا بقرار لتحرير سعر الصرف، لتعود بعد ذلك وتكبله بمجموعة من القيود، تحتاج إلى قرارات واجتماعات وآليات لفهمها قبل تنفيذها، ولا تجد غضاضة- الحكومة- بعد ذلك لتؤكد لنا، ولنفسها قبل الآخرين ،أنها لا تزال على قرارها بتحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار، والأهم أن لا أحد يناقشها في ذلك!
أقرأ أيضا: