كان العرف الشائع بين نقاد الغزل فى الشعر العربى إلى عهد قريب، فيما يورد الأستاذ العقاد أن أحسن الغزل هو ما حَسُنَ فيه وصف المحبوب، وزاد على الغاية فى إسباغ المحاسن عليه. فمن وصف محبوبه بالشمس أغزل ممن وصفه بالبدر أو بكوكب من الكواكب، ومن صوره معصومًا من أى نقص أو عيب، أغزل ممن ظهر فى وصفه بعض العيوب.
وهذا فيه خلط بين الاستحسان والعشق، وهما مختلفان.
فالاستحسان يأتى من العاشق وغير العاشق، ولا يلزم فى العاشق أن يكون المحبوب أحسن فى نظر العاشق من كل من سواه.
وهذا العرف الشائع فيه خلط أيضًا بين هوى الشخصية وهوى الصفات.
فمن شروط العشق الأول أنه يميز للعاقل شخصيته واحدة بين جميع الشخصيات التى يراها، وهو بذلك يحل «المشخصات» فى الفرد فى محل أعلى وأرفع من « الصفات » التى تعم بحسنها كل من اتصف بها.
ويرجع هذا التمييز فيما يرى الأستاذ العقاد إلى أسباب كثيرة لا تقتصر على استحسان الجمال، منها تقارب العواطف، ومنها المصادفة التى تجمع بين العاشقين فى أحوال مهيأة للالتفات والتعلق ثم للألفة والهيام، ومنها الشعور بنقص فى العاشق تتممه مزايا المعشوق.
ثم إن فى هذا العرف الشائع، خلطٌ أيضًا بين خصائص المعشوق وخصائص العاشق.
فالجمال شىء يخص المعشوق ويدل عليه، ولا يلزم تفوق أحد العاشقين على الآخر فى الصفات المحبوبة أو فى الصفات المحبة.
ولذلك فإن أحسن الغزل ليس هو أحسن الثناء على المحبوب، وقد يكون غزلا ًجيدًا أو شعرًا غراميًا جيدًا وفيه هجو وإقذاع !
هذا إلى أن العشق اضطرارٌ لا اختيار.
فالعاشق لا يلازم معشوقه لأنه يختار ملازمته، بل لأنه لا يستطيع فراقه حتى ولو أساء إليه.
وعلى ذلك فالمدرسة التى تجعل الثناء والاستحسان مقياس الإجادة فى الغزل، تجهل الغزل الجيد وتخلط بين تلك الأمور.
● ● ●
وهناك مدرسة أخرى تجعل «الرقة» والمبالغة فيها مقياسا للغزل والمتغزلين.
فالذى يتذلل مثلاً ويتضرع، أغزل من الذى يثور ويتبرم.
والذى يبكى الليل والنهار أغزل ممن يبكى الليل ويكفكف دموعه فى النهار.
وهذا الرأى من سخف الضعف والاضمحلال الذى ابتلى به الشرقيون.
فالعشق أقوى غريزة تختلج بها البنية الإنسانية، وهو لم يخلق للذة العاشقين ونعيمهما حتى يكون كل ما فيه لينًا ونعمة ورقة.
وإنما نعرف أحسن الغزل حين نعرف مبعثه فى طبيعة الأحياء.
والغزل قبل كل شىء خاصة من خواص الذكور فى الإنسان وفى جميع الأحياء (ويبدو لى أن هناك استثناءات كما نرى فى إناث القطط وإناث الأسود).
فالصفات التى تجعل الغزل صالحا للإصغاء إليه والوقوع فى موقعه هى الصفات التى تجعل الرجولة صالحة لما تستبق إليه، وهى صفات يرى الأستاذ العقاد أنه ليس فيها تأنث ولا ضراعة ولا خفوت.
ويورد الأستاذ العقاد بعض فقرات مما كتبه سلفًا فى مقال بكتاب «الفصول» الذى نشر سنة 1922، وقد تناولناه فى المجلد الأول للمدينة وأورد ما عقب به فى هذا المقال على رأى داروين، فقال إنه تلمس «علة الطرب من ناحية الرقة والرخامة، فعسر عليه الوصول إلى مصدرها، وقال فى كتابه أصل الإنسان: «لو سأل سائل: ما بال بعض الألحان والأوزان يرتاح إليه الإنسان وأنواع من الحيوان ؟! لما كان فى وسعنا أن نجيب عن ذلك إلا بجواب السؤال عن سبب ارتياحها إلى بعض المذوقات والمشمومات».
«ثم قلنا إننا «إذا تلمسنا علة الطرب أولاً من جهة التأثر بقوة الصوت وجدنا الجواب عن ذلك السؤال سهلاً قريبًا، وأمكننا أن نجيب من يسألنا: لماذا يؤثر أعمق الأصوات ارتجافًا وتمويدًا وأكثرها تنوعًا وتجويدًا ؟ فنقول له: لأنه ترجمان العاطفة الشديدة، والعاطفة من شأنها أن تبعث العاطفة، ولا يزال الغناء كذلك حتى يتعلم الناس الكلام، وينعقد الصوت ألفاظا، فيتدفق الغزل من النفس المحتدمة تدفقًا قويًا عارمًا ويكون أجهر الرجال رغبة أهيجهم لرغبة المرأة وأبلغهم إلى نفسها كلامًا وأغلبهم على طبعها سلطانًا»…
«واستطردنا من ذلك إلى أن « العشق فى طبيعته الأولى بعيد عن الرفق والسلاسة، وإنما هو شواظ لاذع يلتف دخانه بناره، ويلتهب شوقًا إلى وقوده، فإن أصابه خمد وعاد الشاعر يترنم بهناءة نفسه ويغتبط بالراحة من سورة طبعه، وإن لم يصب وقودا كان نقمة لا تطاق».
[email protected]
www. ragai2009.com