وقيل إنه كان لبثينة فتى من بنى عمها شوهدت تتحدث إليه، فاستراب جميل وانصرف عنها، وكره كل منهما أن يبدأ بالصلح، حتى غلبه الأمر، فأقبل على البيت الذى كانا يتلاقيان فيه، وأقبلت هى ولكنها لم تبرر له، فأنشد يقول:
لقد خفت أن يغتالنى الموت عنوة وفى النفس حاجات إليك كما هيا
وإنى لتثنينى الحفيظة كلما لقيتك يومًا أن أبثك ما بيا
ألم تعلمى يا عذبة الريق أننى أظل إذا لم أسق ريقك صاديا
فرقت له بثينة وقالت لمولاة لها كانت معها: ما أحسن الصدق بأهله، ثم تصالحا، فسألته بثينة أن ينشدها قوله:
تظل وراء الستر ترنو بلحظها إذا مر من أترابها من يروقها
فأنشدها إياها، فبكت وقالت: كلا يا جميل ! ومن ترى أن يروقنى غيرك؟
ويرى الأستاذ العقاد أن جملة الأخبار المتفرقة تفضى إلى أن الهوى بين جميل وبثينة لم يخل من نزعات الجسد، ولا من الغيرة والشك والريبة والتهمة من الجانبين.
وما قد يبدو فى ذلك من التناقض، إنما هو فى طبيعة العاطفة أو فى حالاتها وتعبيراتها.
وجائز جدًّا فيما يرى الأستاذ العقاد أن يكون جميل قد أعلن براءته فى بعض شعره، وجائز أن يكون قد كشف الحقيقة فى بعضه الآخر، وجائز جدًا أن يكون عذريًّا فيما اعتقد جميل ونوى، وأن تخالطه النزعات الجسدية فيما طغى به الهوى.
ويحصل كل يوم أن ينوى الإنسان البراءة ثم يقع فى الريبة على غير وده، وأن يصبر عن هذا وذاك فى حينه، ولا سيما أن صاحب القصة إنسان لا يملك مشيئته، فيود حينا ما يأباه فى حين آخر، وقد يستنكر فى يومه ما أنكره فى أمسه، ولعله يعود فينكره فى غده.
وجميل وبثينة إنسانان كسائر الناس، لا نحكم على عمل من أعمالهما بالمناقضة وننفيه، إلاَّ إذا ناقض الطبيعة البشرية وكذب ما تواتر من أخبار الناس.
«وكل ما يبدو من أخبارهما أنهما كانا عاشقين يلج أحدهما فى عشقه ويقبل الآخر منه هذه اللجاجة.
«فكان جميل يتابع بثينة وكانت بثينة تقبل منه هذه المتابعة، لأنها تألفه وتؤثره على زوجها وتستعز بهيامه ونسيبه بين أترابها.
«ويجوز أنها عرفت غيره كما يجوز أنه عرف غيرها، بل يجوز أنها كانت تعتمد عليه فى بعض حاجاتها كما تعتمد المرأة على الرجل الذى يهواها، فكان الهوى بينهما على طباق الأرض ولم يكن بالهوى السابح فى أجواز الفضاء، وكانا إنسانين فى كل حالة من حالاتهما كما يكون كل إنسانين بدويين فى ذلك الزمن وفى تلك البيئة، وعند ذلك لا يُرى فى أخبارهما ما يناقض الواقع أو يستبعده العقل أو يخالف ما يجرى فى علاقات الغرام.
«أما الهوى العذرى فقصاراه أنه كان أمنية لهما وأمنية لكل قبيلة تعتز بالمنعة والصيانة فى بناتها. إن جرى الواقع بما يخالفه فهو الواقع الذى يخالف أبدًا كل عرف نصبو إلى تحقيقه، فما زال من دأب المثل الأعلى أو من دأب الأمانى الاجتماعية أنها تراد وتخالف ولا يزال الناس يريدونها ويخالفونها، فلا ينفيها ذلك بل يدل على وجودها
«وقد اتفقت أسباب شتى على توكيد هذا العرف فى قبيلة بنى عذرة وجيرانها.
«فهى قبيلة بادية توكل إليها أحيانًا حراسة الطرق بين الحجاز وما جاوره من شماله، ففيها طبيعة البداوة أن تعتز بالمنعة والصيانة وألا تعترف بالشبهة فى بناتها ومحارمها، وفيها رغبة الحفاظ على هذه السمعة التى تحتاج إليها وتأبى أن تمس فيها، وإلاَّ ديس حماها وبطلت حراستها وتخطاها من يعتمد عليها.
«وهى مع هذا قبيلة تجاور الحجاز وتعرف الإسلام وتنكر ما ينكر من إثم وتفرض ما يفرض من حدود. فليس بمباح عندها أن تتصل المرأة بغير زوجها، وليست إباحة ذلك فعلاً بمانعتها أن تنكرها وتبرأ منها فى حياتها الاجتماعية».
ويرى الأستاذ العقاد أن المنعة أو الاستعصام بين الرجال والنساء مصلحة طبيعية نوعيه، بل وفسيولوجية كما نسميها فى العصر الحديث.
«فإذا كانت آداب العشق هى الآداب التى تكشف الفضائل النوعية فى العاشقين معاً، فالاستعصام لازم فيها والتجمل بالعفة ضرورة من ضروراتها، لأن الاستسلام للشهوات ضعف لا يرشح صاحبه للبقاء ولا يدل على استحقاقه للحب والإيثار».
والطبيعة والدين معًا يدعوان إلى العصمة بين العاشقين، وينكران الاندفاع إلى الشهوات بغير مساك ولا ممانعة. وذلك هو الأقرب للتأكيد فى القبيلة البدوية التى تهمها المنعة وتجاور كعبة الدين وتجرى على سنة الطبيعة.
وعلى ذلك فإن ما اشتد من عصمة العرف بين العذريين معقول ولا يناقض سنن الطبيعة.
كما أن ما جاء فى سيرة جميل وبثينة خلافًا لذلك العرف أو وفاقًا له معقول فى الحالين، فمخالفة العرف شىء يقع ولا يمتنع.
وينتهى الأستاذ العقاد فى هذا الفصل إلى أن جميل وبثينة عاشقان طبيعيان، وأن ما جرى بينهما وروى عنهما لا تناقض فيه، بل انهما لن يوجدا على غير ما وُصِفا حيث وُجِدَا فى تلك البيئة وفى ذلك الزمان.
[email protected]
www. ragai2009.com