ومن النقائض التى يرى الأستاذ العقاد أنها تنجم عن تقديرات النقاد والقراء، أنهم ربما رأوا للهوى العذرى صفة الكمال، ومن ثم يرون هذا الهوى فى كلام جميل وأخباره على صفة أخرى.
فالهوى العذرى كما شاع على ألسنة واصفيه فيما يرى الأستاذ العقاد هوى بعيد من الجسد ونزعاته، باق ما بقيت الحياة، ثم هو لا يزال قانعًا على مدى الحياة ؛ بالنظر والحديث والمناجاة، وقد يتورع عن الملامسة والتقبيل كأنه صلة قائمة بين روحين لا يتمثل لهما جثمان.
وقد وصف جميل هواه على هذه الصفة فى بعض ما نسب إليه فقال:
لا والذى تسجد الجباه له
مالى بما دون ثوبها خبر
ولا بفيها ولا هممت به
ما كان إلا الحديث والنظر
وقال يصف ليلة مع بثينة:
خليلان لم يقربا ريبة
ولم يستخفا إلى منكر
وقال عباس بن سهل الساعدى : «دخلنا على جميل وهو يحتضر، فنظر إلىّ وقال : يا ابن سهل! ما تقول فى رجل لم يشرب الخمر ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ قلت : أظنه قد نجا. فمن هذا الرجل ؟ قال : أنا… قلت : ما أحسبك سلمت وأنت تشبب ببثينة منذ عشرين سنة. فعاد يقسم: لا نالتنى شفاعة محمد إن كنت وضعت يدى عليها لريبة، وأكثر ما كان منى أن أسند يدها إلى فؤادى أستريح ساعة ! » .
ووصف الوصافون لقاءه وإياها، فلا فحش ولا هجر ولا تلامس فيه، حتى إذا قارب الصبح ودع كل منهما صاحبه وافترقا.
إلاَّ أن أخبارًا أخرى فيما يورد الأستاذ العقاد جرت على مبيته أحيانًا عندها واضطجاعها معهما. هذا وإن خلت أشعاره مما يؤيد ذلك، إلاَّ أن له قصائد صرحت غير مرة بالعناق والتقبيل. قال :
تجود علينا بالحديث وتارة تجود علينا بالرضاب من الثغر
كما قال :
كأن فتيت المسك خالط نشرها تقل به أردانها والمرافق
تقوم إذا قامت به من فراشها ويغدو به من حضنها من تعانق
وأشباه ذلك فى شعره غير قليل
وربما حلف لها فى بعض شعره أنه لم « يمس جلدًا غير جلدها » حيث يقول:
حلفت يمينًا يا بثينة صادقًا فإن كنت فيها كاذبًا فعميت
إذا كان جلد غير جلدك مسنى وباشرنى دون الشعار شريت
(الشعار : ثوب يباشر الجسد، وشريت : أى أصبت بالشرى وهو طفح مؤلم )
فهى كانت تتصل به وتتهمه بالاتصال بغيرها، وهو أيضًا لم يكن يكتم الشك فيها وإلقاء الريبة عليها، وله فى ذلك كلام صريح يقول منه:
تظل وراء الستر ترنو بلحظها
إذا مر من أترابها من يروقها
ويقول:
بثينة قالت يا جميل أربتنى فقلت كلانا يا بثين مريب!
وأريبنا من لا يؤدى أمانة ولا يحفظ الأسرار حين يغيب
بعيد على من ليس يطلب حاجة
وأما على ذى حاجة فقريب
أو يقول مبكتًا لها:
لحا الله من لا ينفع الوعد عنده ومن حبله إن مد غير متين
ومن هو ذو وجهين ليس بدائم على العهد حلاّف بكل يمين
ولست وإن عزت علىّ بقائل لها بعد صرم يا بثين صلينى
أو يقول مبكتًا نفسه :
وأنى لأستحى من الناس أن أرى
رديفًا لوصل أو علىّ رديف
وأشرب رنقًا منك بعد مودة وأرضى بوصل منك وهو ضعيف
وإنى للماء المخالط للقذى إذا كثرت واده لعيوف
(الرنق هو الكدر)
وبلغة يومًا أن بثينة استبدلت به حجبة الهلالى فقال:
فيا بثن إن واصلت حجبة فاصرمى حبالى وإن صارمته فصلينى
ولا تجعلينى أسوة العبد واجعلى مع العبد عبدًا مثله وذرينى
www. ragai2009.com