لم تكن أبيات «جميل» ـ التى رأيناها ـ لم تكن غضبة هجاء تحتمل الحق والباطل، وإنما كانت تعبيرًا عن واقع وجيزه أن آل بثينة لم يجترئوا على المساس به حماية لعرضهم، مع أن السلطان أهدر دمه إذا ما شوهد فى ديارهم، وكان قصارى ما يصنعه زوجها أن يشكوه ويشكوها إلى أبيها وأخيها.
هذا ولم تكن وسامة «جميل» هى المزية الوحيدة التى حببت فيه، وإنما كان لماله نصيب، ونطق بذلك شعره. قال:
ولو أرسلت يومًا بثينة تبتغى يمينى وقد عزت علىّ يمينى
لأعطيتها ما جاء يبغى رسولها وقلت لها بعد اليمين سلينى
سلينى مالى يا بثين فإنما يبيّن عند المال كل ضنين
ويذكر الأستاذ العقاد أنه كان يرحل ويعود فيتهمها بصلة جديدة، وهى لا تبالى أن تلمح إلى هذه الصلة فى بعض مناجاتها إيّاه.
وقد زُوجت بثينة برجل أعور ضعيف المنة لا يروقها ولا تهابه ولا تشعر بحماه.
ولم يرد فى أخبار جميل أنه تزوج إلى أن توفى، وقد تكون أوفى النساء له ولكن لا تلام على زواجها من غيره لأن أمرها ليس بيدها.
إلاَّ أنها لم تكن من الوفاء ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ بحيث يقدح الزواج وحده فى ذلك الوفاء، ولعلها إحدى الكثيرات اللاتى يصدق فيهن وصف «كثير» تلميذ جميل :
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة إذا غمزوها بالأكف تلين
عشق جميل وبثينة
يذكر الأستاذ العقاد أن كل ما قرأه عن جميل أو له، يدل على أن علاقتهما هى العلاقة التى تكون بين الرجل والمرأة وتتعطل فيها الإرادة بعض التعطيل أو كل التعطيل ، أو هى العلاقة المسمّاة العشق والغرام.
يقول الأستاذ العقاد:
«ومن الواجب أن نذكر هنا أن العلاقات الإنسانية كلها تستتبع شيئًا من تقييد الإرادة قلَّ أو كثر. فالصديق لا يفارق صديقه بمحض اختياره، والشريك لا يفارق شريكه وله مندوحة عن فراقه، وكذلك الزميل أو الزوج أو صاحب الطريق. ولكن التفرقة هنا ضرورية بين تعطيل وتعطيل وبين تقييد وتقييد، فالذى يتعاطى دواءً ينفعه أو ينتظر منه النفع يصعب عليه أن يتركه ويكف عن تعاطيه، والذى تعود التدخين يصعب عليه كذلك أن يتركه ويكف عن تعاطيه، ولكن الفرق بين تقييد الإرادة فى الحالتين واضح كل الوضوح».
«ففى الحالة الأولى يفكر الإنسان فى العواقب وفى المنافع، فلا يقدم على الامتناع».
«وفى الحالة الثانية يفكر الإنسان أو لا يفكر فالنتيجة سواء، بل هو قد يفكر ويؤمن بالضرر ويمتلئ يقينًا بفائدة الامتناع، ثم لا يمتنع ولا يفلح أحيانًا لو حاول الامتناع».
وهذا هو الفرق بين القيود التى يفرضها «الهوى» والقيود التى يفرضها الرأى أو المصلحة.
«وتعطيل الإرادة أصيل فى الهوى كله ولا سيما الهوى الذى نسميه بالعشق أو نسميه بالغرام.
«لأن المرء يرتبط فيه بإرادة شخص آخر، فهو مقيد بهذا الارتباط الذى لا تتفق فيه الإرادتان فى جميع الأحيان.
«ثم يتقيد الشخصان معًا بإرادة النوع كله أو بالإرادة القاهرة التى تتمثل فى الغريزة النوعية، وتتغلب كثيرًا على إرادة العاشقين، وإن اتفقا على حالة من الحالات».
«ثم يتقيدان بالعرف الذى يفرضه المجتمع وتفرضه الآداب والأخلاق فوق ما تفرضه الطبيعة من طريق الغريزة النوعية».
«ثم يتقيدان بظروف المعيشة وأحوال الدنيا التى تتاح على وفاق الهوى أو لا تتاح».
«فإذا تميز العشق بين سائر العلاقات الإنسانية بخاصة من الخواص الظاهرة ـ فأكبر ما يتميز به هذا التقييد الشديد لإرادة العاشق من جملة نواحيه».
«وقد يبلغ به هذا التقييد لإرادته أن يحول بينه وبين فهم إرادته فلا يعلم ماذا يريد فضلاً عن أن يعلمه ويعجز عنه، فإذا به قد انقسم على نفسه كما ينقسم المعسكر الواحد إلى ضدين متحاربين، ولا غنيمة لأحد منهما فى الانتصار، إذ هو انتصار لا يخلو فى الحالتين من خسار».
«وينتهى به الأمر إلى البقاء على حاله عجزًا عن تغييره لا سرورًا به ولا رغبةً فيه».
«فهو لا يتعلق بمعشوقه لأنه راض عن هذه العلاقة يلتذها ويتشهاها ويتذوق النعمة والهناءة فيها، ولكنه يتعلق به لأنه عاجز عن فراقه، مقيد بضروب من العادات والوساوس لا حيلة له فيها ولا قدرة له عليها».
«ومثله ف ذلك مثل المدمن الذى يتعاطى السموم ولا يجهل بلواها، ولكنه يقلع عنها فلا يقر له قرار، فيمضى فيها وهو كاره لها يبحث ما استطاع عن سبيل النجاة»!
[email protected]
www. ragai2009.com