«من لم يتعلم من ماضيه لن يرحمه مستقبله» مقولة تنطبق على الأمم والشعوب ربما بدرجة أشمل وأعمق بكثير من انطباقها على الأفراد، لذا فإن الذاكرة التاريخية للأمم والشعوب هى التى تحدد ملامح هويتها الوطنى، وبالتالى هى التى ترسم تصورات هذه الشعوب عن معالم طريقها نحو المستقبل.
وكتابنا الذى نتحدث عنه هنا رغم أن عنوانه الذى اختاره له مؤلفه هو «هوامش على ذاكرة الوطن» إلا أن المحلل لمضمون الكتاب سيجد أنه محاولة دؤوبة للتنقيب فى عمق جذور ذاكرة هذا الوطن.
وكاتبنا هو شريف عطية، وهو أحد أبناء المؤسسة العسكرية الوطنية، وهو – وإن كان قد تفتح حسه الوطنى مع بدايات الحقبة الناصرية فعايش نهضاتها وكبواتها (تخرج من الكلية الحربية 1962 وتدرج فى قيادة التشكيلات العسكرية إلى أن أنهى عمله الميدانى كرئيس للاستطلاع عام 1971) – إلا أنه أصبح بعد ذلك واحدا ممن عايشوا مراحل وتطورات السياسة المصرية وعاينوا كواليسها منذ أوائل السبعينيات حتى أواسط الثمنينيات (التحق بالعمل بمكتب مستشار رئيس الجمهورية للأمن القومى فى أوائل السبعينيات ليتدرج فى المناصب فيتولى منصب مدير الإعلام لرئاسة الجمهورية حتى 1986).
وهو بذلك يعد ممثلا جيدا لما يمكن تسميته بـ«جيل الوسط»، ذلك الجيل الذى اشتدت سواعده فى خمسينيات القرن الماضى، أى وذروة عصر استقلال الدول القطرية العربية وتفجر القضية الفلسطينية، وعاصر عن قرب صعود وانكسار الحلم القومى العربى، وهو الجيل الذى يقول عنه عطية إن أبناءه «لم يرجموا عبد الناصر كالآخرين رغم كونهم كانوا وقود طموحه المجهض، وهم أيضا لم يوافقوا السادات على طول الخط رغم قناعتهم بحكمته المنتقصة، وهم أنفسهم الذين كانوا يفتلون حبال الصبر والجهد مع مبارك وهو يقود السفينة عبر العواصف والأنواء».
ولكن ما ميز عطية عن غيره من أبناء جيل الوسط هذا أنه قد عايش عن قرب كواليس التفاعلات السياسية التى مرت بها مصر، وهى المعايشة التى تمنح هذا الكتاب تميزه، فإذا كان عطية يقر فى مقدمة كتابه بأن المكتبة العربية قد امتلأت بعصارة تجارب من مارسوا القيادة والمسئولية إلا أنه يوضح أن شهادات الصفوف التالية لم يستمع إليها بعد بالقدر الكاف، وهو يضع كتابه هذا فى إطار هذه الشهادات؛ شهادات رجالات الصفوف التالية لقادة الصف الأول.
إلا أن ما يعطى هذا الكتاب نكهة خاصة أيضا هو تمكن مؤلفه من حرفة الكتابة، وكيف لا وهو الذى أسس -أو ساهم فى تأسيس- عددا من المجلات والإصدارات بل والأقسام الصحفية أيضا، فقد أسس مجلة الأوبرا (1994-2004)، كما أشرف على إصدار مجلة «فكر وفن»، وكذلك أسس قسم الرأى بجريدة «العالم اليوم»، وهو اليوم المستشار السياسى لجريدة «المال».
ولعل أبلغ دليل على هذه الملكة التحريرية هى تلك المهارة التى تميز صياغته لعناوين المقالات التى ضمنها بين دفتى كتابه، وهى العناوين التى لابد أن تثير خيال القارئ فتجتذبه للاطلاع عليها، ومن هذه العناوين: «قوانا الناعمة المأزومة».. «شيطنة الصهيونية».. «المرأة نصف السماء».. «الوباء الببغائى».. «حتى لا يتوحش الذئب وتفنى الحملان».. و»ماذا لو لم يقتل السادات؟» (.. وبالفعل ماذا كان سيحدث لو لم يقتل السادات)!؟
ومهارة اختيار العناوين تلك لا يتوقف دورها على اجتذاب القارئ، بل إن هذه العناوين تبلور أيضا وبوضوح رؤية الكاتب لطبيعة عصور كل من ترأسوا مصر، فمن فصل «عبد الناصر وعصر من الحروب» (وبالفعل فإن الحروب كانت أبرز معالم الخط الزمنى للحقبة الناصرية)، إلى «السادات ودبلوماسية الحرب» (لاحظ المزاوجة بين الحرب والدبلوماسية)، ومنه إلى «مبارك وعصر من المواءمات» (وبالتأكيد فإن المواءمات لابد أن تكون أهم ملامح حكم رئيس كان يرفع دائما شعار «الاستمرار والاستقرار»)، لنصل فى النهاية إلى «السيسى..وعصر من الترميم والإصلاح.. أما خاتمة الكتاب فتأتى تحت عنوان جدير برجل أمضى عمره فى الاهتمام بقضايا الأمن القومى فجاءت بعنوان: «تجنيب مصر حربا أهلية عالمية.. ضرورة بقاء».
واللافت فى هذا الكتاب أنه إذا كان يقدم شهادات تاريخية وقراءة تحليلية للأحداث التى مرت –بل وعصفت– بمنطقتنا عبر أكثر من 60 عاما، فإنه يقدم لقارئه أيضا وجبة دسمة من الإجابات على العديد من الأسئلة المحيرة المتعلقة بمصير النظام العالمى الذى تمر العديد من أقطابه بمراحل تحولات جذرية، وتأثير ذلك كله على نظامنا الإقليمى، وعلى قضايانا القومية والوطنية.
نقطة أخرى يجب ألا تفوت قارئ هذا الكتاب، وهى أن يطّلع على ملحق الصور فى نهايته، وهو الملحق الذى يمكن اعتبار أنه يمثل بالفعل «ذاكرة الوطن»، ففيه نجد صورا للكاتب مع الرؤساء الثلاثة؛ ناصر والسادات ومبارك، كما يحتوى صورا له مع مسئولين وسياسيين وشخصيات عامة مثل: حسين الشافعى، حافظ إسماعيل، د.مراد غالب، د.أحمد زويل، أحمد ماهر، منصور حسن.