بقلم رجائى عطية
كان عمر بن أبى ربيعة، هو وحده الشاعر المكثر بين الوادعين المترفين من أهل زمانه، وكان مكانه فى طبقته يتيح له ـ فيما يرى الأستاذ العقاد ـ أن ينقل عنها وتنقل عنه، ويسمع منها وتسمع عنه، وتختلط به من باب المصاحبة والمساواة.
كان فى القمة من بيوت قريش غنىً وجاهًا وحسبًا، وكان همّه بمن يساوينه فى الطبقة من بنات تلك البيوت.
وحسانه اللاتى اشتهر بالحديث عنهن وأحب أن يتسم بحبهن، كلهن من ذوات الحسب والثراء، ومن طبقة محدودة لها ذوقها الخاص.
فعائشة بنت طلحة التى أراده زوجها مصعب بن الزبير أن يتحدث فى شعره عنها، هى بنت طلحة بن عبيد الله، وحفيدة أبى بكر الصديق من ناحية أمها، وصاحبة شهرة مستفيضة.
والثريا ـ ولعلها أحظى الحسان عنده ـ هى بنت على بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس، وصاحبة حظ موفور من المال والدور والرياض.
والسيدتان سكينة بنت الحسين وفاطمة بنت عبد الملك بن مروان ـ لهما فى النسب والثراء مكان لا يعلوه فى زمانهما مكان، ويلحق بهما من قريب أو بعيد حسان أخريات من كبار البيوتات .
فلا عجب إذن أن ينفرد عمر بحديثه المنظوم عن هذه الطبقة، فهو شاعرها الذى اجتمعت له الأسباب.
ولا عجب إذن يكون ديوانه كله ـ إلاَّ القليل ـ فى الغزل ورسائل الغرام.
ومن تمام العلم بالترف الذى كان مهتمًا بوصفه، أنه فى الجملة ترف ساذج لا يخلو من مسحة البداوة.
ومن صفاته كان عمر شاعر عصره وشاعر طبقته وشاعر طريقته فى الغزل.
طبيعة غزله
كانت العلاقة بين الرجل والمرأة فى قبائل العرب البادية على سنة الفطرة، ولكنها لم تكن على حالة واحدة. قد تغلب عليها القوة أو الضعف، وقد توصف بالشدة كما توصف بالسهولة واللين، وقد تظل على البساطة وقد يعرض لها بعض التركيب أو التعقيد.
ففى البداوة الأولى كانت مناعة الحوزة هى الفضيلة العليا، لأنها غاية ما يتمناه البدوى فى كفاح العيش ليضمن بقاءه بين المنافسين والمغيرين.
فالقبيلة الشريفة هى التى تمنع ماءها ومرعاها وتذود عن حياضها وجيرتها.
والسيد الشريف هو الذى لا يُستخف بجواره ولا يُعتدى على ذماره.
والمرأة الشريفة هى التى يصعب منالها ولا يسلس قياده.
فالعفة هنا ـ فيما يرى الأستاذ العقاد ـ هى فضيلة « حربية » تابعة للفضائل العامة التى تغلب على أحوال القبيلة برمتها .
وإذا نظرنا للمرأة من حيث هى عرض الرجل الذى يحميه ويغار عليه ـ فلا جرم يصبح اللغط باسم المرأة إهانة لها وللرجل الذى يحميها.
ثم يجىء سلطان الدين فيضيف إلى حصانة البداوة مناعةً إلى مناعة، ويزيد حق أولياء النساء فى حماية أسمائهن والمطالبة بعقاب من يغازلهن ويلغط بذكرهن.
بيد أن الأدب البدوى يدركه أحيانًا ـ فيما يرى الأستاذ العقاد ـ عرض من أعراض التغير أو الانحلال، لجدب شديد يحطم قيوده، أو لترف تنغمس فيه القبيلة فتلين بعد جفاء وصلابة، أو لقلة الحاجة إلى القتال ونخوة العداء التى تجعل المناعة فضيلة الفضائل، أو لما يحدثه النعيم من حب الدعابة والسخر بالجلافة.
هنالك ترى من سهولة الغزل ما تستغرب أن تراه فى حاضرة من حواضر العصر الحديث.
وهنا يورد الأستاذ العقاد قصة طويلة ينقلها بصبر وبتصرف يسير عن أبى الفرج الأصفهانى فى ترجمته ليزيد بن الطثرية، ويقفى بعدها ما يراه أعجب من قصة الأصفهانى فى استباحة الغزل أو استحسانه ـ ويقفى بما رواه عن ياقوت الحموى فى مادة « رباط » من معجم البلدان.
لينتهى إلى أن الملحوظ مما قدمه، أن خفض العيش وقلة الحاجة إلى نخوة القتال ـ لهما اتصال بما شوهد من سهولة الغزل بين القبائل العربية، ولهذا كان أكثره إلى سلالات اليمن الذى عرف منذ القدم « باليمن السعيد » لخفض عيشه ورقة أخلاقه.
ويرى الأستاذ العقاد أن البادية أقرب إلى الغزل ـ متى قل وازع الصولة أو سطوة الدين ـ من أهل الحاضرة، خلافًا لما يرد إلى الظن من أول وهلة.
لأن أهل البادية أقرب إلى غرائز الأحياء الفطرية فيما يعالجونه، ولأنهم كذلك أوفر نصيبًا من الفراغ، وأدنى إلى اللقاء، وأقل من أهل المدن الكبيرة أندية وملاعب للرياضة العامة يقضون فيها سويعات الراحة والبطالة.
[email protected]
www. ragai2009.com