بقلم رجائى عطية
محمود سامى البارودى
هذا الجندى الشجاع، المرح، أضاف إلى ذوق المتعة بمحاسن اللذات، فيما يقول الأستاذ العقاد، ذوق المتعة بمحاسن الطبيعة وجمال الأرض والسماء، لأنه يطلب المتعة جنديًا وشاعرًا، ويحس إحساس الجندى والشاعر.
من لذاته الحية فى ساعات الرقاد والاسترواح، يرقب الطير رقبة المشغول بشأنه وليس مجرد الواصف على المحاكاة والسماع.
ونبـأة أطلقت عينى من سـنة
كانت حبالة طيف زارنى سحرا
فقمت أسأل عينى رجع ما سمعت
أذنى فقالت لعلّى أبلغ الخبـرا
ثم اشرأبت والفت طائرًا حـذرًا
على قضيب يدير السمع والبصرا
مستوفزا يتنزى فوق أيكتـه
تنزى القلب طال العهد فادكرا
لا يسـتقر له سـاق على قـدم
فكلما هدأت أنفاسه نفـــرا
يهفو به الغصـن أحيانـا ويرفعـه
دحو الصوالج فى الديمومة الأكرا
ما باله وهو فى أمـن وعـافيـة
لا يبعث الطرف إلا خائفاً حذرا
إذا علا بات فى خضراء نـاعمـة
وأن هوى ورد الغدران أو نقـرا
وهكذا يعرف البارودى كيف يشعر بالحياة والطبيعة ـ من يعرف كيف يشعر بالخطر والموت.. ويكون فى حالتيه كما يكون الجندى الفنان الذى يضيف إلى لذة الجسد لذة الذوق الفطن والسليقة الجياشة.
وقد بقيت للبارودى هذه النوازع ـ فيما يضيف الأستاذ العقاد ـ بعد إدبار شبابه، فلم يغالط قلبه أو يغالط شيخوخته، بل صرح بالرغبة والعجز عنها :
وكيف تلذ بعد الشـيب نفسـى
وفى اللذات أن سنحت عـذابى
أصد عن النعيم صـدود عجـز
وأظهر سـلوة والقـلب صـاب
وما فى الدهـر خيـر من حيـاة
يكون قوامهـا روح الشــباب
وهكذا نرى فى الديوان ترجمانًا لكل خلجة من خوالج هذه النفس الشاعرة، وأثرًا من آثار حياته الباطنة والظاهرة.
ليس فى الديوان شجاعة البارودى ومرحه وصبوته فقط، بل فيه أيضًا دهاؤه وحصافته التى عرفه بها معاصروه ولازمته قبيل الثورة العرابية وفى أثنائها وبعدها، فلم يغلبه عليها إلاَّ غلبة المقادير..
اكتم ضميرك من عدوك جاهـدا
وحذار لا تطـلع عليـه رفيقـا
فلربما انقلب الصـديق معاديـا
ولربما رجع العدو صـديقـا
ومنه «تصريحه» فى سهو الطرب والمناجاة :
كيف أخشى قول داه
إنـا من قوم دهـاه
وجماع هذه الخصلة وصفه لموقف فى الثورة العرابية حيث قال :
نصحت قومى وقلت الحرب مفجعة
وربما تـاح أمـر غير مظنـون
فخالفـونى وشـبوهـا مكابـرة
وكان أولى بقومى لـو أطاعـونى
تأتى الأمور على ما ليس فى خـلد
ويخطئ الظن فى بعض الأحاييـن
حتى إذا لم يعد فى الأمر منـزعـة
وأصبح الشر أمرًا غير مكـنون
أجبت إذ هتفـوا باسمى ومـن شـيمى
صـدق الولاء وتحقـيق الأظانين
وإذ بلغ التوافق بين خلائق البارودى وديوانه هذا المبلغ ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ فإن هذه هى آية التعبير الصادق والشاعرية والملكة الفنية.
وهذا التفوق البارز فى شعر البارودى ـ قد ارتقى فى التعبير عن «شخصيته» هذا المرتقى الرفيع، فى عهد كان حسب الشاعر فيه أن يُحكم الصناعة وينقل الخواطر العامة ليُحسَب من المتفوقين البارزين.
«قدرة الرجل على أن يجمع بين أحكام الصناعة وشرف العبارة وصدق الإبانة عن كل سريرة من سرائره وكل لون من ألوان طبعه فى غير سخف ولا استرخاء ولا تكلف هى عنوان الحياة فى تلك الشخصية وعنوان القوة الماضية فى تلك الشاعرية. لأنها مضت إلى غايتها من وراء الغشاوات والعراقيل والمغريات».
[email protected]
www. ragai2009.com