الارتباك الذى ساد الأوساط الاقتصادية الحكومية الأسبوع قبل الماضى بعد كشف رئيس وزراء قطر حمد بن جاسم عن إيداع 4 مليارات دولار لدى البنك المركزى المصرى آخر دلائل إنعدام الشفافية بشأن الأوضاع الحقيقية للاقتصاد، إذ كان المعلن قبل ذلك هو أن الوديعة القطرية لا تتجاوز 2 مليار دولار إلى جانب 500 مليون دولار منحة.
وبينما بدت قطر هى الذراع الاقتصادية للسياسة الغربية فى المنطقة خلال الفترة الأخيرة، خصوصاً فيما يتعلق بالوضع فى سوريا، قال وزير المالية الأسبق الدكتور سمير رضوان فى حوار مع المال، إن المجتمع الغربى لن يسمح للنظام الحاكم بارتكاب أخطاء سياسية تؤدى إلى سقوطه، باعتبار أن من مصلحة الغرب بقاء هذا النظام.
وبينما يترقب كثيرون الذكرى الثانية لثورة 25 يناير، شهدت القاهرة نشاطا دبلوماسيا واقتصاديا على مدار الأسبوع الماضى، تمثل فى زيارتى رئيس الاتحاد الأوروبى هيرمان فان رومنى، الذى قال إن الدول الأوروبية ملتزمة بمساعدة مصر اقتصادياً بنحو 6.5 مليار يورو بالتزامن مع إتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولى لاقتراض 4.8 مليار دولار، كذلك أنهى وزير المالية القطرى يوسف كمال زيارته للقاهرة نهاية الأسبوع الماضى وسط أنباء عن الإعداد لتمويل قطرى جديد بقيمة 2.5 مليار دولار، وكذلك تصريحات رئيس الوزراء القطرى حمد بن جاسم التى أشارت إلى التزام بلاده بالدعم الاقتصادى لمصر.
ويكشف الإعلان الصادر عن مصدر غير مصرى عن حجم الودائع القطرية حقيقة مفزعة هى أن احتياطيات الدولة من النقد الأجنبى المقدرة بنحو 15 مليار دولار هى فى الواقع أقل من ذلك بنحو مستوى النصف تقريبا، إذا ما تم خصم الودائع القطرية والتركية والسعودية وقيمة الذهب من الاحتياطى، بما لا يغطى احتياجات الدولة من الواردات المهمة لأكثر من شهر ونصف الشهر على أقصى تقدير.
التخبط والتناقض بخصوص الشأن الاقتصادى قبل انتخاب الرئيس محمد مرسى
ويرجع التخبط والتناقض فيما يخص الشأن الاقتصادى إلى ما قبل انتخاب الرئيس محمد مرسى، إذا وجهت جماعة الإخوان المسلمين انتقادات لاذعة لمشروع قانون الموازنة للعام المالى الحالى 2012-2013 الذى أعدته حكومة الدكتور كمال الجنزورى وأقره المجلس العسكرى، رغم أن حكومة الدكتور هشام قنديل التى شكلها الرئيس لم تدخل أى تعديل فى بنود تلك الموازنة وتبنت ذات المستهدفات.
ولم يقتصر التناقض على مسألة الموازنة، إذ سارع النظام الحاكم لإعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولى ورفع من قيمة القرض المطلوب إلى 4.8 مليار دولار بدلا من 3.2 مليار، كما فتح النظام قنوات تواصل واسعة مع الاتحاد الأوروبى، طالبا المساعدة الاقتصادية، وعدد آخر من المانحين الأجانب، على الرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين كانت من أشد المنتقدين لمساعى حكومة الدكتور كمال الجنزورى للاقتراض من الخارج وعطلت كتلتها البرلمانية موافقات على قروض عادية من البنك الدولى.
إلا أن أخطر ما يمثل المرحلة الحالية فى التعامل مع المانحين الأجانب هو التدخل المباشر والصريح فى القرار الاقتصادى المصرى بصورة تصل إلى حد التعدى على السيادة لم تحدث فى عهد نظام مبارك، وهو ما اتضح من سير مفاوضات الحكومة الحالية مع صندوق النقد الدولى وكذلك فى الشروط المستترة لاتفاقيات القروض مع الاتحاد الأوروبى وودائع الدول كقطر وتركيا.
نظام مبارك تعامل مع صندوق النقد الدولى مرة واحدة فقط
يذكر أن نظام مبارك لم يتعامل مع صندوق النقد الدولى سوى مرة واحدة أوائل التسعينيات حينما توصل إلى اتفاقية قرض يتجاوز 600 مليون دولار عبر عدة مراحل، واكتفت الحكومة فى حينها بصرف 250 مليون دولار فقط دون ان تتحمل استكمال برنامج “الصندوق” بعد أن تم بيع وتصفية ما يقرب من ثلث قطاع الأعمال العام.
ولم يحدث أن خرجت الجريدة الرسمية أثناء حكم مبارك بسلسلة من القوانين المباغتة التى تمس أسعار السلع الأساسية للمواطنين، مثلما حدث فى التعديلات الضريبية الجديدة التى خرجت بمرسوم قانون من الرئيس محمد مرسى فى ليلة الخميس 9 ديسمبر الماضى لترفع من أسعار 50 سلعة قبل أن تعلن الرئاسة تعليق تنفيذها فى منتصف الليل لتثير تلك التعديلات عاصفة من الارتباك فى أسعار السلع الأساسية، وعلى سبيل المثال ظلت حكومة أحمد نظيف تروج لمشروع قانون “الصكوك الشعبية” الذى يهدف لطرح جزء من شركات قطاع الأعمال فى الاكتتاب العام بالبورصة لمدة عامين دون أن تجرؤ على تمرير القانون.
وأكد خبراء أن أولويات النظام الحالى انصبت على تصفية الحسابات مع خصومه السياسيين وخوض معارك جانبية مع القضاء والإعلام دون أن يكون الوضع الاقتصادى فى مقدمة أولوياته، كما أن النظام لم تكن لديه رغبة حقيقية فى الإصلاح الاقتصادى بدليل أن ما يسمى برنامج الإصلاح الاقتصادى كان موجها فى الأساس لصندوق النقد الدولى، ومع ذلك لم يلق قبولا من الصندوق على أساس عدم واقعية هذا البرنامج فيما يخص مستهدفاته وتوقيتات تطبيق الإصلاحات المقترحة.
ومما يؤكد أن برنامج الإصلاح غير موجه للداخل الطريقة التى خرجت بها الإجراءات المرتبطة بهذا البرنامج، مثل إصدار قوانين وتعليقها بشكل غير رسمى، ورفع الدعم عن المازوت دون دراسة ونقاش، وارتفاع أسعار الكهرباء والمياه للمنازل دون إعلان رسمى، مما يفرّغ أى حوار مزعوم حول هذا البرنامج من مضمونه، وهى طريقة تشبه الطريقة التى خرج بها الدستور الجديد عبر فرض أمر واقع ثم الدعوة للحوار.
المجموعة الاقتصادية بالحكومة ترى لا بديل لإنقاذ الاقتصاد سوى التمويل الخارجى
وفيما يلح مسئولو المجموعة الاقتصادية بالحكومة على عدم وجود بدائل لإنقاذ الاقتصاد سوى التمويل الخارجى، تهاوت مؤشرات الدخل الأجنبى الأخرى المتمثلة فى السياحة والاستثمار الأجنبى المباشر، وتؤكد مؤشرات الربع الأول من العام المالى الحالى تراجع حجم الاستثمارات الكلية المنفذة إلى 11% وهو أدنى معدل لها فى 4 سنوات، وكان الاستثناء الأبرز هو ارتفاع تحويلات المصريين بالخارج بنسبة 40% خلال 2012 إلى ما يزيد عن 19 مليار دولار.
ولم تكن تحويلات المصريين بالخارج وحدها التى ساعدت على تماسك الاقتصاد خلال الشهور الماضية، إذ كانت ودائع المصريين بالداخل هى الممول الأبرز والأهم لنفقات حكومة الرئيس محمد مرسى منذ تشكيلها فى أغسطس الماضى، وحسب بيانات وزارة المالية فإن عجز الموازنة خلال آخر 6 شهور من 2012 بلغ نحو 80 مليار جنيه، يتم تمويل الجانب الأعظم منها عبر بيع أذون الخزانة الحكومية التى تشتريها البنوك بودائع المصريين مستفيدة من ارتفاع الفائدة التى جاوزت 16% قبل انتخابات الرئاسة.
وعلى الرغم من ذلك حرم البنك المركزى المودعين من أى زيادات مستحقة فى أسعار الفائدة على ودائعهم بالبنوك، وظلت أسعار الفائدة الرئيسية «الكوريدور» مستقرة دون أى حراك منذ عامين، ورغم الأداء الاقتصادى المتباطئ ساهمت ودائع القطاع المصرفى فى دعم الاقتصاد الوطنى لترتفع بمقدار 61.35 مليار جنيه خلال العامل المالى المنتهى فى يونيو 2012 ليصل اجمالى الودائع إلى نحو 1.027 تريليون جنيه، بزيادة بلغت 79.99 مليار جنيه على العام المالى 2010-2011.
تم استنزاف احتياطى النقد الأجنبى بسبب السياسة النقدية التى اتبعها البنك المركزى
ووجه الخبراء انتقادات للسياسة النقدية التى اتبعها البنك المركزى خلال تلك الفترة معتمدا فيها على مساندة سعر صرف الجنيه حتى تم استنزاف احتياطى النقد الأجنبى بما يزيد على 20 مليار دولار، ليضطر فى النهاية إلى استحداث آلية جديدة لبيع وشراء الدولار إلى البنوك مما خفض من سعر الصرف إلى حدود 6.5 جنيه امام الدولار، وهو الإجراء الذى رحّب به صندوق النقد الدولى فى بيان رسمى.
كما كان الإجراء الخاص بحظر خروج الأموال الكاش بأكثر من 10 آلاف دولار للمسافر عبر تعديل قانون البنك المركزى، متأخراً جداً بعد نحو عامين من عدم حظر خروج أى مبالغ مالية سائلة.
وأخيراً أصدر البنك المركزى بيانا أوضح فيه وضع الاحتياطى النقدى منذ بداية عام 2011 وأسباب انخفاضه وهو ما وصفه المركزى بالحد الادنى والحرج، إذ أشار المركزى إلى استخدامه 13 مليار دولار لتغطية خروج المستثمرين الأجانب من السوق المحلية دون تحملهم اى انخفاض فى متاجرتهم بالدين المحلى المصرى، إلى جانب استخدامات أخرى كانت ستتم سواء قامت الثورة أو لا تتمثل فى 14 مليار دولار لاستيراد السلع التموينية والمنتجات البترولية و8 مليارات دولار لسداد اقساط وفوائد المديونيات الخارجية.
ويقول مصرفيون إن «المركزى» إذا كان قد سمح بتراجع محدود فى سعر صرف الجنيه أمام الدولار عقب أحداث الثورة فكان من الممكن تفادى النزيف الذى لحق باحتياطيات النقد الأجنبى.
ويعود الحديث عن تبنى برنامج وطنى للإصلاح الاقتصادى إلى أوائل العام الماضى، إذ أعاد الدكتور كمال الجنزورى رئيس الوزراء حينها التفاوض مع صندوق النقد الدولى لاقتراض 3.2 مليار دولار، وعلى الرغم من أن الحكومة فى ذلك الوقت لم تفصح عن تفاصيل برنامجها، فإن الركائز الأساسية لهذا البرنامج حددها «الجنزوري» فى البيان الذى ألقاه امام مجلس الشعب نهاية فبراير من العام الماضى وهى استكمال خطة لترشيد النفقات وإعادة هيكلة دعم الطاقة وتطبيق حزمة من التعديلات على قانون الضريبة على الدخل إلى جانب إصلاح منظومة الضريبة على المبيعات وكذا تفعيل قانون 196 لسنة 2008 الخاص بالضريبة العقارية.
الحكومة تستهدف خفض عجز الموازنة إلى 8.5%
ومع تسلم الرئيس محمد مرسى السلطة فى الأول من يوليو الماضى، وتشكيل حكومة الدكتور هشام قنديل، أعلنت الحكومة عن إعداد برنامج جديد للإصلاح المالى والاقتصادى ورفعت من قيمة القرض المطلوب من صندوق النقد إلى 4.8 مليار دولار، دون الإعلان عن تفاصيل هذا البرنامج أيضا، غير أن ما تم الكشف عنه خلال توقيع الاتفاق المبدئى مع صندوق النقد أواخر نوفمبر الماضى هو استهداف البرنامج خفض عجز الموازنة إلى 8.5% من الناتج المحلى الإجمالى بنهاية السنة المالية المقبلة 2013-2014.
وخلال الشهور الماضية من تشكيل حكومة الرئيس محمد مرسى، لم تظهر أى ملامح لوجود توجه اقتصادى مغاير للتوجهات الاقتصادية للنظام السابق، بل على العكس، اتفق عدد من الخبراء على أن نظام الحكم الحالى يسير باندفاع شديد نحو تحرير الاقتصاد بشكل كامل أمام الاستثمارين الخاص والأجنبى، مع إذعان كامل لشروط مؤسسات التمويل الأجنبية، غير أن أكثر ما تخوف منه الخبراء هو أن النظام الحالى يسير فى هذا الاتجاه بلا سابق خبرة، وبطريقة تسرع من وتيرة أى انهيار اقتصادى محتمل بشكل لا تصبح معه كلمة «الإفلاس» مبالغا فيها.
ورغم إعلان المجموعة الاقتصادية بالحكومة عن برنامج للإصلاح الاقتصادى يتركز أغلبه فى فرض ضرائب جديدة وإعادة هيكلة دعم الطاقة، اعتبر الخبراء أن تقديرات الحكومة لعوائد تلك الإجراءات مبالغ فيها وغير واقعية بالمرة.
الحكومة تسعى لتوفير 31.2 مليار جنيه
وبالنظر لتفاصيل برنامج الاصلاح المالى والاقتصادى، الذى كشفت عنه المجموعة الوزارية الاقتصادية قبل نحو أسبوعين، فإن الحكومة تستهدف توفير نحو 31.2 مليار جنيه خلال الأشهر الستة المتبقية من العام المالى الحالى 2012-2013 عبر تطبيق إجراءات هيكلية وغير هيكلية منها 9.2 مليار جنيه حصيلة زيادة ضريبة المبيعات و5 مليارات جنيه من ضريبة الدخل و10 مليارات جنيه من ترشيد دعم البترول، وإلى جانب 6.8 مليار جنيه متوقع توفيرها من تطبيق الكروت الذكية لاستهلاك البنزين خلال شهر أبريل المقبل، مؤكدة أنه لا سبيل للخروج من الأزمة المالية الحالية إلا بتطبيق تلك الإجراءات، الأمر الذى يفرغ الحوار المجتمعى من مضمونه، حيث يتم التحاور على برنامج يطبق بالفعل وفق تصريحات سابقة للدكتور أشرف العربى وزير التخطيط والتعاون الدولى.