4 عُقد رئيسية في الفِكر الاستراتيچي لأوروبا

طارق عثمان

9:46 ص, الأحد, 3 مارس 19

طارق عثمان

طارق عثمان

9:46 ص, الأحد, 3 مارس 19

أوروبا تشعر بالقلق. القارة القديمة تنظر للولايات المتحدة وآسيا وترى تغيّرات سريعة، وكلها معبأ بتحديات للعواصم الأوروبية.

فى وسط التغيُرات يكمن أربعُ عقد.

العقدة الأولى هى تأثير صعود أقصى اليمين السياسى فى عدد من دول أوروبا – فى الشرق والغرب – على المشروع الأوروبى نفسه. هذه النقطة محورية فى هذا العام بالذات، حيث إن رئاسة الاتحاد الأوروبى عند النمسا التى يحكمها تحالف ينتمى لهذا التيار اليميني. الخوف هنا يكْمن فى تأثير فكر هذه الأحزاب على تصور أوروبا لنفسها على أنها أعلى تجسيد لليبرالية الديمقراطية فى التاريخ الإنسانى كله. هذا التصور، قد يبدو ساذجًّا خارج القارة. ولكنه فكرة مؤسِسة للمشروع الأوروبى الذى بدأ منذ بدايات الخمسينيات. ومن ثَم، فإن المخاطر التى تواجه الليبرالية الأوروبية، فى وجهة نظر المفكرين الاستراتچيين للقارة، على المشروع التاريخى لأوروبا.

العقدة الثانية هي: إلى أين تمضى الولايات المتحدة؟ المشكلة هنا ليست الاختلافات الجوهرية بين فكر الرئيس ترامپ وفكر المؤسسات الرئيسية فى الاتحاد الأوروبي. المشكلة – من وجهة النظر الأوروبية – فى أن ترامپ نتيجة وليس سببًا، أى أن نجاحه هو تجسيد لصعود تيارات كبيرة فى أمريكا ترى فيه ممثلاً لها، ومن أهم قناعات هذه التيارات، أن أوروبا عالة على الولايات المتحدة، خاصة فى مجال الدفاع، حيث تتحمل الولايات المتحدة الجزء الساحق من تكاليف تحالف الناتو وتطوير التسليح الغربى بشكل عام، بينما أوروبا – فى رؤى هذه التيارات اليمينية الأمريكية – تنعم فى الحماية الأمريكية، تقريباً مجاناً.

هنا، أوروبا ترى مخاطر فى تطور هذه الأفكار إلى مطالبات أمريكية تؤدى إلى نفقات اقتصادية (وسياسية)، أوروبا ليست متحمسة لها، وقد تكون غير قادرة عليها، والمشكلة أن ترامپ وإدارته يبدون ناظرين إلى العلاقة مع أوروبا من زاوية حسابات تكلفة ومصاريف، وليس – كما تعودت أوروبا طيلة العقود السبعة الماضية منذ الحرب العالمية الثانية – من رؤية أن العلاقة تحالف إستراتيجي. هذه المشكلة كانت فى قلب النقاشات الرئيسية فى الاجتماع السنوى لمركز السياسات الإستراتيجية التابع للمفوضية الأوروبية، أواخر العام الماضي.

العقدة الثالثة متعلقة بالتكنولوچيا الحديثة. أوروبا تدرك أن التطور فى الذكاء الصناعي، وتعلُم الأجهزة، وquantum computing من أهم عوامل النجاح الاقتصادى فى المستقبل القريب. لكن الفجوة العلمية هنا بين أوروبا والولايات المتحدة هائلة. كما أن الصين قد طورت قدراتها العلمية فى هذه المجالات إلى حد بعيد، وهى إن كانت ما زالت بعيدة عن التقدم الأمريكى فى هذه المجالات، فإنها قد سبقت أغلب دول أوروبا بمراحل. والعقدة أن الاستثمارات المالية والبشرية فى هذه المجالات مهولة التكاليف وتستغرق سنوات لاستشعار نتائجها، وأوروبا تعرف أنها قد فاتها عدد من قطارات هذه الصناعات شديدة الأهمية للمستقبل.

المعضلة الأخرى التى تفرضها التكنولوچيا الحديثة هى أنها، وبسهولة، يُمكن تحويلها إلى أسلحة سياسية، كما بدا واضحًا فى صراعات الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة، ثم فى عدد من دول أوروبية فى 2017 و2018، كما أن الشركات الكبرى المتحكمة فى هذه الصناعات، هى بشكل رئيسى أمريكية وتوسعاتها الرئيسية فى آسيا. ومن ثم فإن هذه الشركات لا بد لها من مراعاة متطلبات الدولة الأمريكية والدولة الآسيوية الأولى (الصين). أما أوروبا، فهى سوق مهمة، ولكنها ثانوية. معنى ذلك، أن التأخر الأوروبى فى هذه الصناعات بدأ يكون له دواع على الأمن الأوروبي.

العقدة الرابعة تكمن فى العلاقة بين القلب المؤسسى للاتحاد الأوروبى (ومقره الإداري، بروكسل) والعواصم الأوروبية المختلفة. بروكسل ترى أن التحديات التى تواجه أوروبا تستدعى تكاملاً أكبر، ودورًا قياديًا أشمل لمؤسسات الاتحاد. العواصم الرئيسية التقليدية فى أوروبا (وأهمها برلين وپاريس) متفقة مع ذلك الاتجاه، بشرط المحافظة على دورهما القيادى للاتحاد ككل، بينما العواصم ذات النفوذ المتزايد فى الوسط والشرق (مثل پراج ووارسو) لديها تحفظات متعددة على توجهات بروكسل وشروط برلين وپاريس. كل ذلك يُصَعِب على هيئات الاتحاد الأوروبى مواجهة ما تراه عُقدًا كبرى تواجه القارة.

هذه العُقد تطرح عددًا كبيرًا من الأسئلة. سيكون تحليلها ومحاولات الإجابة عنها فى قلب العمل السياسى فى أوروبا فى 2019.

طارق عثمان هو مؤلف Egypt on the Brink، الكتاب الأكثر مبيعاً عن مصر فى العالم فى العقد الماضى وIslamism: A History of Political Islam، الصادرين عن دار نشر جامعة ييل الأمريكية، ومؤلف ومقدم عدد من السلاسل الوثائقية لـBBC البريطانية.

  • كاتب مصرى مقيم فى لندن