الموفِّق الموفَّق
الإمام المصلح الشيخ محمود شلتوت
شاء الله تعالى أن يرثى الأستاذ العقاد صديقه المقرب، الإمام المصلح محمود شلتوت، الذى توفى فى 22 ديسمبر 1963، ونشر هذا الرثاء بمجلة الأزهر فى يناير 1964 قبل شهرين من انتقال الأستاذ العقاد رحمهما الله إلى الرفيق الأعلى فى 13 مارس 1964.
كانت بين الفقيدين محبة صادقة، واحترام متبادل، وتقدير مشترك لدور كل منهما فى الإصلاح والمنافحة عن الإسلام، وقد حدثتك سالفًا ببعض ما كان بينهما من مودة صادقة وتوقير متبادل.
ورثاء الأستاذ العقاد للإمام المصلح الشيخ محمود شلتوت، إنما يأتى على وزنهما، وتعبيرًا عن المعانى الرقيقة التى كانت تربط بينهما.
يقول الأستاذ العقاد فى بداية رثائه للشيخ شلتوت :
«فى كتابات الإمام الفقيد كلمات لها طابعها الذى تتميز به بين أمثالها من الكلمات فى كتابات غيره، ممن ينهضون بأمانة الدراسة الدينية.
«ولعل أبرز هذه الكلمات فى كتاباته وفى أحاديثه «كلمة الشخصية».
«يلحقها بوصف العقيدة، ووصف الفرائض المقدسة، بل يجعل العقيدة كما يجعل الفريضة معلَمًا من معالم شخصية الأمة، وشخصية الإنسان فى حياته الباطنة وحياته الظاهرة.
قال رحمه الله فى مفتتح مقاله عن رسالة الأزهر : «إن للإنسان فى هذه الحياة فردًا كان أو جماعة شخصيتين، حسية ومعنوية، ولا يحظى بالوجود الكامل إلاّ إذا نال حظه من الشخصيتين. وشخصية الفرد الحسية يكوّنها اللون والطول والعرض، وشخصيته المعنوية يكوّنها إيمانه ومبدؤه وهدفه فى الحياة، وماله من عقل وتدبير وثبات ومثابرة فى سبيل مبدئه وهدفه.
ثم قال عن شخصية الأمة الحسية : «إنها ترجع إلى إقامتها فى الإقليم الذى نشأت فيه وإلى الأصل الذى تنتسب إليه»… «أما شخصيتها المعنوية فهى ترجع إلى روابطها القلبية والعقلية والشعورية، وعلى قدر ما يكون لها من التأثر بتلك الروابط المتفاعلة والحرص عليها وعلى معارفها التى تكوّنها، وعلى الإيمان بمصدر تلك المعارف، يكون لها بين الأمم من آثار الوجود المعنوى
وكتب عن الصلاة فى فصل من فصول «الإسلام عقيدة وشريعة»، فقال عنها : «إنها العنصر الثانى من عناصر الشخصية الإيمانية».
وعلى هذه الوتيرة كانت كلمة «الشخصية» تتردد فى أحاديثه للدلالة على قوام كل «وجود» حق يتميز به عقل الإنسان وضميره فى حياته الروحية، وهى لمحة من لمحات التعبير الباطنى تدل على معناها وتدل مع هذا المعنى على مقدار شعوره بكرامة الشخصية واقترانها بحق الإنسان وواجبه وبالتبعة التى تناط بها الحقوق والواجبات، وتقرر له موقفه من الشخصيات الإنسانية الأخرى فى إبداء الرأى والاضطلاع بأعباء الدعوة والإقناع».
***
هذه فيما يقول الأستاذ العقاد واحدة من خصال العقل المجتهد، بل هى أولاها فى ترتيب كفاية المجتهدين. وتلك الخصلة التى توافرت للأئمة السابقين من أصحاب الرأى والقياس فى الشريعة، وبفضل الثقة الواعية وهذه الخصلة القويمة، كانوا يقولون عن سابقيهم : إنهم رجال ونحن رجال.
وإلى هذه الخصلة الحميدة، أشار العالم الفاضل الدكتور محمد البهى فى تقديمه لتفسير الإمام الفقيد فقال : «التفسير الذى نقدمه اليوم للمسلمين هو تفسير للمسلمين أجمعين، لا لمذهب معين من المذاهب الفقهية، ولا للون من ألوان العقيدة الكلامية، ولا لاتجاه خاص من اتجاهات أهل الظاهر أو أهل الباطن».
ثم تعرض للمنهج الذى اختاره الأستاذ المفسر واقتدى فيه بالعالم المصلح العظيم محمد عبده فقال : إنه منهج «جعل السورة وحدة واحدة، يوضح مراميها وأهدافها وما فيها من عِبر ومبادئ إنسانية عامة»، وإنه لا يقحم فيه على القرآن من رأى خارج عنه، أو مصطلح انتزع من مصدر آخر، فجعل كلمات القرآن يفسر بعضها بعضا، كم أطلق الحرية للقرآن فى أن يدلى بما يريد دون أن يحمل على ما يراد.
وبهذه المثابة يصبح تفسير القرآن تفسيرًا للمسلمين جميعًا، وعليه يقام أساس التوفيق بين المسلمين أجمعين، وهى أمانة لا يضطلع بها غير أهلها من القادرين على الاستقلال بالفهم وعلى مواجهة الخلاف بما ينبغى للمجتهد من الشجاعة الصادقة ووسائل الإقناع بإحسان، وما ينبغى للمجتهد المعلم خاصة من الصمود إلى غاية التعليم، وغاية المعهد العلمى الذى يتولاه.
وصف الإمام الفقيد رسالة الجامع الأزهر معهد العلم الإسلامى الأكبر فقال فى بضع كلمات : «إنه معهد الدين وحصن اللغة المكين».
ويضيف الأستاذ العقاد أن مَنْ أراد هذه الرسالة للجامع الأزهر فقد عرف من قبل رسالة القرآن الكريم، بل عرف المعجزة الكبرى لهذا الكتاب فى ناحية إعجازه التى لا مراء فيها، وهى معجزة الأثر الخالد التى نستطيع نحن أبناء هذا العصر أن ندركها وأن يكون إدراكنا لها أقوى وأوضح ممن سبقونا إلى العلم بمعجزة الكتاب المبين.
وعندما تكلم الشيخ شلتوت عن غايته من التعليم فى المعهد الكبير الذى تولاه، قال فيما يحدثنا الأستاذ العقاد : «نريد تخريج تبريز لأئمة فى اللغة وفروعها وأئمة فى الفقه وأصوله نريده تخرجًا أساسه النظر العميق والاجتهاد العلمى الذى يكوِّن الشخصية الفقهية والشخصية اللغوية العربية، لا نريده تخريجًا نلتزم فيه مخلفات الماضى من آراء ومذاهب، بل يجب أن نجتهد وأن نؤمن بأن حاجة اليوم فى الفقه واللغة وعقائد الدين غيرها بالأمس، وأن نؤمن بأن فضل الله فى كل ذلك لم يكن وقفًا على الأولين».
ويعقب الأستاذ العقاد بأن أسلوب الفقيد هو الاجتهاد بعناصر «شخصيته» على تمامها، وطبقًا لما يجب أن يلتزمه ويضطلع به المجتهد فى كل عصر،وهو لازم بل ألزم فى عصرنا.
فما من عنصر من عناصر الاجتهاد، إلاّ وقد ظهر له فى هذا العصر باعث أو بواعث تستوعبه، لم تكن ظاهرة بهذا الوضوح فيما سلف.
عنصر النظرة الموحدة إلى الكتاب المبين.
وعنصر اللغة فى النهضة العربية.
وعنصر «الاستقلال» فى عصر الحرية الفكرية.
والعنصر المستمد من صيرورة معهد الإسلام الأكبر معهدًا لكل الأجناس من كافة البلاد، الآتين من جميع قارات الدنيا لينقطعوا فيه لدراسة الإسلام ومعرفته.
وقد كان من عرف الإمام محمود شلتوت فيما يؤكد الأستاذ العقاد أنه تزود لهذه الرسالة بزاد إلى جوار علمه الغزير وشجاعته الصادقة، وهو زاد القلب الطيب والسجيّة الكريمة التى تجمع حتى الخصوم على الألفة والثقة كما تجمع الأصحاب والأنصار.
يضيف الأستاذ العقاد:
«ولقد عرفنا الشيخ الأكبر سنوات فى مجمع اللغة العربية فتعودنا أن نعرفه «قرآنيًّا» فى دراسته لأسرار اللغة، قبل أن نعرفه «لغويًّا» فى دراسته لأسرار القرآن، وكنا نسمعه يقول : إن القرآن معجز بما هو به قرآن، ويعنى بذلك نسقه الذى ينتظم ألفاظه ومعانيه ويوحى من معانيها بما ليس فى مفردات الكلم ولا فى أجزائه التى يقتضيها الإعراب فى كل عبارة. فليست الكلمة الواحدة هى محل الإعجاز، وليس محل الإعجاز هو الكلمتين أو الكلمات الثلاث التى تتم بها جملة الفعل والفاعل أو المبتدأ والخبر والجار والمجرور أو المضاف والمضاف إليه، ولكنه نسق دقيق يتخطى لوازم العلاقة بين الألفاظ فى النحو والصرف إلى لوازم العلاقة بين المعنى والوجدان، وبين الوحى والبصيرة، مما لا تدركه ولا تبلغ إليه بلاغة الإنسان، وبهذه البصيرة المتفتحة تسنى له أن يفهم القرآن كتابًا للمسلمين جميعًا يرجعون إليه فيرجعون إلى مصدر واحد يبطل فيه الخلاف، أو يختلف فيه المختلفون ولكن كما يختلف العقل الواحد بينه وبين نفسه فى وجهات نظره بين حين وحين، وبين اعتبار واعتبار» وبهذه النظرة «القرآنية» عمل الإمام الأكبر فى تنظيمه للدروس بمعاهد التعليم، كما عمل فى الهداية من خلال علاقته بالأمم الإسلامية وبلاد العرب.
والجديد فى خطته كما يقول الأستاذ العقاد أنه فهم أن اللغة العربية، أو اللغة القرآنية، شىء يتعلمه العربى المسلم، كما يتعلمه المسلم غير العربى.
لقد عمل رحمه الله وعلم، وترك المثال الذى يقتدى أو يهتدى به مَن عمل معه ومَن تعلم على يديه، ومن يقدر على مجاراته فى اجتهاده، أو الزيادة عليه بما يتأتى مما لم يتهيأ له فى حياته، وإنهم لكثيرون فيما يشهد الأستاذ العقاد، سلائلاً الله تعالى أن
يجزيهم وإياه أجزل الثواب.
Email: [email protected]
www.ragai2009.com