تابع الإسلام والنظام العالمى الجديد
ولكن الإسلام وسط بين نظام رأس المال ونظام الشيوعية، ينفى مساوئ كل منهما ويأخذ بالمحاسن بالقدر الصالح للجماعات.
فهو يكره من المسلم أن يكنز الذهب والفضة، ويحرم عليه الربا الذى يتيح لأصحاب الأموال استغلال العاملين، ويطلق السبيل للمنافسة المشروعة، فلا يقتل الحوافز ودواعى السعى.
وقواعد الإسلام الخلقية صالحة لإنشاء الوحدة العالمية، لأنه يسوى بين الأجناس، ولا يفاضل بينهم أو بين الألوان بغير التقوى والعمل الصالح، ويعترف بالمساواة والحرية، ويجعل الحاكم «إمامًا» يُقْتدى به ولا يجعله «ربًّا» متصرفًا بمشيئته فى عباد الله.
ومن هنا فإن المستقبل فى العالم الحديث يتقرر بمبادئ الإسلام (ودعنا بداهةً من ممارسات الجانحين)، لتقود العالم إلى الخلاص بعد فشل رأس المال وفشل الشيوعية وقصور العقائد الروحية.
والإسلام يحول بين الإنسان وبين الاستغراق فى شئون المعاش ومطالب الأجساد، لأنه يناديه إلى حضرة الله العلى القدير ليصلى بين يديه خمس مرات فى الليل والنهار، فلا تطغى عليه النزعات المادية، كما دبر الإسلام للمسلم مشكلة البيت، كذا مشكلة السوق والسياسة، بما فرضه للمرأة من حق الاكتساب دون أن تكون سلعة تباع وتشترى لإشباع الشهوات.
والكتاب فيما يقول الأستاذ العقاد لطيف الحجم، لا يجاوز مائة وخمسين صفحة بالقطع الصغير ولكنه واف بموضوعه، متقن فى أدائه واستدلاله، وهو على ذلك مما يحتاج إلى قراءته المسلم وغير المسلم.
***
بعد ذلك يشير الأستاذ العقاد فى مقالٍ تالٍ إلى الدعوة الثانية المنطلقة من الهند فى هذا الموضوع، وهو موضوع الإسلام وأحكامه التى تتكفل للعالم بنظام شامل يعالج معضلاته، ويوثق الروابط بين الأمم فى طمأنينة وسلام.
وهذه الدعوة الثانية هى خطاب ألقاه «ميرزا بشير الدين محمود أحمد» فى الاجتماع السنوى للجماعة الأحمدية الذى عقد فى «قاديان» سنة 1942، ثم ترجم إلى اللغة الإنجليزية وعنيت الجماعة بنشره من بضعة شهور.
ويبدو من مطالعة الخطاب أن صاحبه يوجه النظام العالمى إلى حل مشكلة الفقر، ومشكلة توزيع الثروة بين أمم العالم وأفراده، ويتضح من الخطاب أن صاحبه على إطلاع واف محيط بالأنظمة الحديثة : الفاشية، والنازية، والشيوعية، وبعض النظم الديمقراطية.
ولكنه يعتقد أن حل المشكلة لا يكون فقط بأيدى الساسة والحكومات، وأنه لا مناص من القوة الروحية، حالة كون الحل الشامل لكل مشكلة إنسانية عامة لا ينبغى أن يهمل الباعث الأكبر على الطمأنينة والحماسة للخير والإصلاح، وهو باعث العقيدة والإيمان.
وقد عرض صاحب الخطاب للأديان الكبرى القائمة فى الهند وفى العالم، من حيث علاقتها بهذه المشكلة وتدبير الحلول التى تزود العالم بنظام جديد أفضل من الحالى، وأتى بالأدلة الكثيرة على إنفراد الإسلام بين هذه الأديان بمزية الإصلاح وتعميمه بين جميع الجنسيات والطبقات.
وعرج المؤلف تحقيقًا لغايته على الديانات الهندية وما تعلمه للإنسان من أن تفاوت الطبقات قضاء من الأزل لا فكاك منه، وأن الفرد يدخل إلى الدنيا ويخرج منها بنصيب مقدر محتوم لا يقبل التبديل، فإذا ادخر ما يزيد على حاجته من القوت والكساء حق للحكومة أن تستولى عليه وتجرده من ماله وتتركه للفاقة والكفاف.
وبعد استطراد فى البرهمية وما تدلى به وتفرضه، عقب الخطاب على الإسرائيلية، بأنها طبقًا لأحكامها بالعهد القديم تخص اليهود وحدهم ولا تعم الأمم جميعًا على مبدأ المساواة، وإنما كل ما فيها يجرى على تمييز اليهودى على غير اليهودى، فإذا سادت هذه المبادئ بين اليهود وسائر بنى الإنسان تحولت الأمم جميعًا إلى عبيد مُسَخّرة لأبناء إسرائيل شعب الله المختار وأصحاب السيادة والثراء.
أما المسيحية، فإنها لم تعرض كما هو معلوم لمسائل القانون ومسائل السياسة أو الاجتماع، ومن ثم كانت دعوتها إلى السلام من الدعوات التى تصطدم بالواقع وتتمخض عن حروب لا تنقطع وحزازات بين الطبقات لا يهدأ لها أوار.
بيد أن الإسلام يتناول مسائل الاجتماع بما يقرره من العدل والمساواة، ويتناول العلاقات بين المحاربين والمسالمين بما سنّه من تنظيم لهذه العلاقات والحقوق، وما فرضه من مبادئ.
وقد بسط الأستاذ العقاد ما أورده الخطاب عن وجوب التزام المعروف والأمر به، وعن الحالات التى يؤذن فيها بالقتال بغير بغى ولا عدوان، ومن نهى عن التجبر فى الأرض، ومن تنظيم عادل لمسألة الأسرى حبب فيه تقديم المن فى إطلاقهم على الفداء، ولا مطمع للشعوب المتعادية أعدل من هذه المعادلة وأقرب منها إلى إزالة العداء والبغضاء.
أما المعاملة بين المسالين، فالتفاضل فيها بالأعمال الصالحة لا بالمظاهر والأحساب والأنساب، وتحكمها قواعد تكفل المساواة وأن يكون المال فى خدمة المجموع، لا كنزًا ولا حجبًا لدى فئة معينة تستأثر به من دون سائر الناس، وأن مصالح الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد، فلا تجاوز ولا تطفيف للكيل والميزان، ولا غش فى التجارة، ولا مغالاة فى الربح، ولا حجز للسلع لرفع ثمنها غبنًا للناس، ولا يجوز لأحد ولا لجمع أن يزعم أنه أحق بالأرض من سواه.
فالنظام العالمى لا يعتمد على عقيدة أصلح لتعميمه وحض النفوس عليه من العقيدة الإسلامية، ولم يقصّر مؤلف الخطاب فى عقد المقابلات والمقارنات بين العقائد الدينية للخروج بهذا الاستخلاص مؤسسًا على أسبابه بلا إعتساف أو انحياز.
ويختم الأستاذ العقاد هذا الفصل بأن الترجمة الإنجليزية التى اشتملت على هذه الخلاصة تقع فيما يزيد قليلاً على مائة صفحة من القطع المتوسط، وأن ما تضمنته ليس صيحة تذهب فى الهواء إذا انتشرت بين قراء الإنجليزية من الأوروبيين والأمريكيين، بل الهنود والشرقيين. إلاَّ أنه ورد عليها أنها من تأليف الخليفة الثانى للمسيح الموعود، مما يورى للأسف بأن كاتبها من الذين يدينون بمهدية القاديانى، وهذه دعاية سيئة لهذا الخطاب السديد مضمونه، وخير للدعوة أن تقصى عنها هذه الألقاب التى تسحب منها كثيرًا من منطقها وحجتها وقوتها بين المسلمين أنفسهم، فضلاً عن غير المسلمين!
لا تستغنى الدعوة الجيدة، عن داعيةٍ مقبول لتقديمها!
رجائى عطية
Email: [email protected]
www.ragai2009.com