وقع اختيارى على هذا الكتاب فى إحدى المكتبات حين قرأت تلك العبارة فى الغلاف الخلفى: «كيف كان أبى يصرخ من فوق السفينة التى أقلعت من الإسكندرية مرددا مرة بعد أخرى (رجعونا مصر)»، إنها تلك الصيحة العامة التى تتردد الآن فى أنحاء الشرق الأوسط من سوريا والعراق واليمن والسودان، كل ينادى مسقط رأسه من النازحين عن بلادهم، إنه المصير الذى جعل السياسة والصراع العالميين يحكم مأساة المصير فى حياة الإنسان الصغير أو ملح الأرض من أسر كل ما يشغلها تربية الأطفال.
اسم الكتاب «الرجل ذو البدلة الشركسكين البيضاء» ظهر فى أمريكا فى سنة 2009 للكاتبة المصرية اليهودية «لوسيت لنيادو” الصادر عن دار الطنانى للطباعة والنشر.
أحداث الرواية التى تحكى فى حميمية دخائل أسرة يهودية كبيرة العدد، نازحة من حلب منذ ما قبل عشرينيات القرن الماضى هروبا من عنت ضد اليهود، تصف الكاتبة الكتاب بأنه عن الحب والمصير وأعذب ما فيه هو قصة الحب البريئة بين الكاتبة فى طفولتها, وحب أبيها ليون واهتمامه بها، هى أصغر الإخوة، وهو نفسه صاحب البدلة الشركسكين البيضاء، وما يشير لأناقة متميزة وحياة عريضة، تصفه لوسيت بأنه كان بطلا دراميا بامتياز شهدت حياته سنوات من المتعة الصافية فى مصر الآمنة، قبل أن تفاجئه تقلبات الزمن وسطوة العجز ومأساة الرحيل عن الوطن فى أخريات العمر وأى وطن يضاهى حبه المتجلى لمدينة القاهرة «عاصمة العالم» كما كانوا يطلقون عليها، العالم فى مصر حاضر بقوة بكل أجناسه وثقافاته وأساليب الحياة فى خلطة سحرية متجانسة ومتوافقة وفى أجواء من التسامح والسلام الاجتماعى وقبول الاختلاف والتعددية الدينية والسياسية رغم الاحتلال الإنجليزى الذى تبلورت فى مواجهته حركة وطنية مصرية نجحت إحدى تنظيماتها فى إزاحته، ولكن السياسة والحرب وأهداف الاستعمار البغيضة والكيان الصهيونى العنصرى وطأت بأقدامها الغليظة هذه التربة الكوزمو بوليتانية الغنية، فأحالت الصورة الجميلة إلى مشهد من الصراع والتشتت أصابت شظاياه حياة الدعة التى عاشتها أسرة ليون، وهنا يأتى دور المصير.. كما تصف الكاتبة.
لوسيت فى سياق الكتاب 373 صفحة تحكى عن اجتياح رومل القائد الألمانى الصحراء الغربية ومدى الهلع الذى أصاب يهود مصر وكيف توعد بأنه سيشرب شاى الخامسة ويأكل الجاتوه فى جروبى، واستعد اليهود للرحيل، ما عدا أباها وانتصر الإنجليز فى الصحراء الغربية، ثم جاءت ثورة 52 ثم حرب 56 حين اتحدت فرنسا وأمريكا وإسرائيل وهاجر الكثير من أفراد أسرتها إلى إسرائيل التى تصفها الكاتبة، بما لاقوا من شظف العيش فى المستعمرات الإسرائيلية «الكيبوتس» وهى عبارة عن عشش من الصفيح بعد الحياة الرغدة فى القاهرة فمات بعض من أفراد العائلة الواحد تلو الآخر، وبدأ الأب فى معاناة تدهور صحته نفسيا وبدنيا وهو على مشارف الستين واضطر إلى المغادرة لباريس ثم إلى أمريكا مرفأهم الأخير وكان يصر على وضع شنطة السفر فى حجرة نومه، ويصيح من آن لآخر”رجعونا مصر”، تلك الصيحة الشائعة الحاضرة بشدة الآن فى أنحاء الشرق الأوسط، كل من يهاجر مقتلعا من الوطن يصيح فى هلع «رجعونا» والمختلف اسم الوطن. إنه الشتات الجديد القديم، وقسوة المصير.