أحوال الحضارة
من الكلمات ما هو أدل من المجلدات، ويعنى بها الأستاذ العقاد الكلمات التى تنقل من لغة إلى لغة أخرى- ما انتقل بينهما من أحوال المعيشة وألوان الحضارة.
ثم يقفى بأنه فى لغات الأوروبيين كلمات عديدة انتقلت من العربية إلى اللغات الأوروبية ولها مثل هذه الدلالة على أثر المعيشة العربية فى المعيشة الأوروبية، بالمعاشرة أو الاتباع فى الحكم أو تبادل التجارة.
وبعد أن ضرب أمثلة لبعض هذه الكلمات بحروفها العربية واللاتينية، عقَّب بأن هذه المفردات شاعت فى الإنجليزية والفرنسية وفى بعض اللغات الأوروبية الأخرى.
أما ما دخل الإسبانية والبرتغالية من الكلمات العربية الدالة على أحوال المعيشة فيحصى بالمئات، وبعد أن ضرب الأستاذ العقاد أمثلة لبعض هذه الكلمات بحروفها العربية واللاتينية، أضاف أن قيمة هذه المفردات ليست فقط فى الصفحات التى زيدت على معجم كل من اللغتين، وإنما لكونها دليلاً على صبغة المعيشة العربية التى اصطبغت بها تلك البلاد وغيرها التى اقتبست تلك الكلمات.
على أن الجزيرة الأندلسية لم تكن هى فقط الجسر الوحيد بين القارة الأوروبية والحضارة العربية، وإنما كان هناك أيضًا القوافل التجارية، والاحتكاك الناجم عن الحروب الصليبية.
بيد أن الجزيرة الأندلسية، هى القطر الوحيد الذى أجمعت الروايات والتقديرات على أنه عاش عصرًا ذهبيًّا أيام الدولة العربية الزاهرة.
وفى هذا العصر صارت كل من قرطبة وغرناطة وأشبيليه وطليطلة ومرسية ومالقه نجومًا زاهرة ليس فقط فى الأندلس بل وفى القارة الأوروبية بأسرها، وكانت كل منها بما تحفل به قبلة للملوك والعامة ولطلاب الثقافة مثل طلاب السياحة والتسوق والتمتع بما فيها من تحف وترف وموسيقى وغناء.
واختار الأستاذ العقاد شهادة الكاتب الإسبانى الأشهر «بلاسكوا أبانيز»، الذى توفى من سنوات قليلة قبل وضع هذا الكتاب، ولكنه كتب عن الأندلس والحياة الزاهرة فيها ومجد العرب ما لم يكتبه كاتب آخر حتى من كتاب العربية، فى كتابه «ظلال الكنيسة»، وآثر الأستاذ العقاد أن يترك الساحة لكلمات هذا الأديب البارز لتعبر عن مشاعره، فنقل ثمانى صفحات كاملات تفيض حبًّا للأندلس وتمجيدًا للحياة فيها وما سطره العرب فى ربوعها والمكانة السامقة التى تبوأتها ورجحت بها على كل دول القارة.
ويعلق الأستاذ العقاد، بأن هذه الشهادة الإسبانية الصادقة للكاتب الإسبانى الأشهر، هى خلاصة التاريخ المتفق عليه، وليست مجرد تحية إعجاب وكفى من رجل منصف متوثب الخيال، وسيرى القارئ حين يقرأ هذه الصفحات بالكتاب أن الأستاذ العقاد لم يبالغ فيما وصفها به.
ولا شك أن أول ما يستخلص فيما يقول- من قيام الحضارة الأندلسية على هذا الوصف المتفق عليه أن آثارها فى أوروبا كانت أعم وأعمق مما تسجله الكتب المطولة وقد أصاب «أبانيز» فى قوله إن عصر النهضة مدين للحضارة الأندلسية العربية قبل الحضارة الإيطالية التى أعقبتها، فتركت آثارًا فى الحضارة العامة لا يستقصيها الأرقام أو العبارات. وقد جاء بعد عصر النهضة، ثم جاء الإصلاح الدينى بعد النهضة، وجاءت الحرية السياسية بعد الإصلاح، إلاَّ أن أحدًا من الأوروبيين لم ينكر الأثر الواسع الذى كان للحضارة العربية فى الجزيرة الأندلسية، والتى انتقل منها إلى أوروبا.
الدولة والنظام
من المفارقات فى ظاهر الأمر- فيما يبدى الأستاذ العقاد، أن يقال إن الحضارة الإسلامية كان لها أثر فى فصل الدولة عن الكنيسة، وفيما تلا ذلك من حركات التحرير أو دعوات التغيير فى معنى الدولة والملك وعلاقة الرعايا والملوك.
ويبدو هذا القول من قبيل المفارقات، لأن المعلوم الشائع أن الإسلام وحَّد الملك والخلافة الدينية وجمع بينهما معًا فى كثير من الدول الإسلامية، فكان اقتران لقب أمير المؤمنين بلقب الخليفة من ألقاب الملوك المسلمين التى تجمع بين المعنيين، أو بين الملك والخلافة.
ولكنها فيما يرى الأستاذ العقاد- مفارقة فى الظاهر فقط لا فى الحقيقة، يدل على ذلك تطورات حركة التحرير فى هذا الاتجاه بين الأوروبيين، وفى خطوات متلاحقة منذ القرن الحادى عشر للميلاد إلى عصر الثورة الفرنسية، وكانت أولى هذه الخطوات ثورة الملوك على سلطان الكنيسة ونزوع بعضهم- كما حصل فى انجلترا- إلى الجمع بين الرياسة الدنيوية والرياسة الدينية، وكان استقلال الملك المسلم عن سلطان رجال الدين فى الشرق والغرب من أقوى الحوافز التى جالت فى خواطر الملوك الأوروبيين ودفعت بهم بدافع الغيرة والقدوة- فى هذا الاتجاه.
ولا شك أنه مهما يكن من تعدد الأسباب التى تقدمت ثورة ملوك أوروبا على الكنيسة، فإنه كان من أسبابها التى تُذكر ولا تُنسى القدوة الملكية المستمدة من الأندلس ومصر وبلاد الشرق الأدنى.
وقد كان لذلك أساس متجذر من قرون، فقد كان المعرى يقول فى أوائل القرن الحادى عشر للميلاد، ومن قبل «جروسيوس» إمام الدولى بستة قرون.
ظلموا الرعية واستباحوا كيدها : وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
ومن قبل المعرى بأربعة قرون، علم القرآن الدنيا كلها أن أمر الرعية شورى، وأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، وينقل عنه الفاروق عمر أن الناس قد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا لا يستعبدهم خليفة ولا أمير.
على أنه وإن كان قد فات الأوروبيين تلقى هذا الدرس عن القيم الإسلامية، فإنهم عرفوا من الدول الإسلامية شيئًا جديدًا فى العلاقات الدولية ومعاهدات السلم والصلح والمتاركة بين الأعداء. وعرفوا احترام العهود والمواثيق، وأن العهد أمانة لا تنتقض ولا يجوز نقضها، وأن لأهل الذمة حقوقًا يكفلها لهم الإسلام، وشاهد الصليبيون جانبًا غير قليل من ذلك و من المعاهدات المرعية إبان الحروب الصليبية.
وكان لهذا الفهم على معناه الصحيح أثره النافع فى علاقات السلم والحرب بين الحكومات، لأن الحضارة العربية رفعت معنى الدولة إلى مرتبة الإنسانية التى ارتقت إليها الحضارة الحديثة بعد ذلك بعدة قرون.
Email: [email protected]
www.ragai2009.com