طوال سبعين عاماً من عمر المشوار العربى «المستقل» عن الحقب الإمبراطورية والخلافية والسلطانية والاستعمارية.. الممتدة من سابق لقرون، فاق خلالها الحديث عن القضايا القومية الكبرى- ربما عن عمد- الاهتمام البنيوى بالدولة الوطنية العربية.. ومواطنيها، إذ تبارت منذ مطلع الخمسينيات التيارات الإسلامية الراديكالية مع الدعوات «الناصرية» قبل رحيل زعيمها 1970.. مع شعارات «حزب البعث» إلى أن تداعى نظاماه فى العراق 2003 وفى سوريا 2011، لتخلو من بعد الساحة العربية من انشغالاتها «القومية» بتحرير فلسطين، وعن الخطر الإمبريالى.. وفى التمحور حول الوحدة والاشتراكية، لتصبح قاعًا صفصفةً إلا من رواسب غيرة دبلوماسية تصادر على الحاضر والمستقبل.. شأن إهدارها من ذى قبل أوقات ثمينة.. علا أثناءها صليل المعارك داخل الدولة الوطنية العربية- وبين بعضهم البعض- فوق هدير ماكينات الارتقاء بالعمل العربى المشترك، الاقتصادى والصناعى والاجتماعى والثقافى، ما أدى- ضمناً- إلى اندلاع الموجة الأولى من «الربيع العربى».. ارتعدت من مغبته فرائص دول مستقرة أو شبه مستقرة.. إذ أردى ثلاثة بلدان عربية من خمس فى حروب أهلية طاحنة، ربما ليست كافية حتى الآن لأن تدفع الأخريات لمراجعة اختياراتها الوطنية أو القومية بسيان، ما قد يفرز- بحسب الشواهد المتواترة- الأسباب لاندلاع موجة ثانية من «الربيع العربي».. لن تقع من المرجح فى ذات الأخطاء التى أدت إلى فشل الموجة (الربيعية) الأولى، إما لحساب دولة الخلافة الإسلامية أو إلى خليط من العلمانيين ورجال الأعمال.. إلخ، لأسبابهما، لن يفتقدا الطريق إلى التحديث الاقتصادى وفى تشاركية الحكم، ما يجعل الدول التى أفلتت فى 2011 تتحسس أعناق أنظمتها خشية اللحاق فى الموجة الربيعية الثانية المحتملة- بمصير سابقاتها فى الموجة الأولى، خاصة لو استقطبت (الثورة) المحتملة طموحات تياراتها الأخرى المختلفة، كأمر وارد ومثبت عملياً، إلى جانب العمل للحصول على رعاية المؤسسات المالية المحلية والعالمية، بسيان، إلا أن الأمر قد لا يبدو متيسراً للتطبيق هكذا على أرض الواقع، إذ دونه مؤسسات الدولة العميقة وما إليها من وسائل وبدائل، تحول عن تنفيذ ذلك التخطيط (الربيعى الثاني) على الصعيد النظرى، خاصة لو أن اقتصادات الزمن المقبل، كأحد الأسباب الرئيسية المحركة فى صنع الأزمات من عدمها، أصبحت فى خدمة المجتمعات القطرية أو القومية على السواء، ليصلا سوياً إلى «المرحلة الرومانسية» من الازدهار والتقدم، إذ دون ذلك ابتلاعهم فرادى الواحدة بعد الأخرى- كالحاصل الآن- لا فرق عندئذ بين دولة ريعية أو أخرى شبه معوزة، خاصة لو نشطت اعتبارات إضافية قد تكون ذات تأثير سلبى على استقرار وحدات النظام العربى، نخبوية- بنيوية- توريث الحكم.. إلخ، أشبه بقنابل زمنية موقوتة فى أحشاء المجتمعات العربية، الأمر الذى لا يغيب عن المنافسين الإقليميين والدوليين المناورة بها لصالحهم وخصماً من الرصيد العربى على الصعيدين الفردى والجماعى، بسيان.
لقد سبق للنظام العربى أن حقق نجاحات مشهودة خلال العقود السبعة الماضية، لولاها لأمكن لمنافسيه التاريخيين تفكيكه، سواء فى الخمسينيات (معركة الأحلاف- حرب السويس) وفى الستينيات (توصيات مؤتمر الخرطوم 1967) وفى السبعينيات (حرب أكتوبر) التى كاد بعدها أن يصبح سادس أكبر القوى فى العالم، على حد تعبير الرئيس «السادات» وقتئذ، إلى الهجمة السلمية على إسرائيل.. التى تراوغ بدورها من استحقاقاتها منذ التسعينيات، إلا أن غلبة النوازع العربية (الواحدية) المزمنة.. الواجب التخلص منها As soon as possible، لينتقل العمل المشترك إلى حقبة زمنية معاصرة.. تستعيد من خلالها القاطرة المصرية «المرحلة الرومانسية» العربية الواعدة.