وليس فى أخلاق المرأة المحمودة، خلق أخص بها وألصق بأنوثتها من خلائق ثلاث: الحياء، الحنان، والنظافة.
ومما له مغزاه فى تقسيم الأخلاق بين الجنسين أن اساطير الخيال ووقائع التاريخ تتفقان بالبداهة وبالمشاهدة على هذا التقسيم. فقد جاء فى أساطير اليونان الأقدمين خبر جيل من الأمم ينعزل فيه النساء، ويتدربن على القتال من الطفولة، ولا يقبلن بينهن أزواجًا يعيشون معهن، بل يأسرن الأزواج ثم ينصرفون عنهم، ويستحيين البنات من الذرية، ويقتلن البنين أو يردونهم إلى آبائهم إن كانوا معروفين. وكان اسم هذا الجيل (الخرافى) «جيل» ومعناها «بغير أثداء»، ومغزى ذلك أن المرأة لا تتصف بهذه الصفة إلاَّ إذا خرجت من طبيعتها إلى أخرى تشبه بالرجال وتخالف أطوار النساء.
الحكمة القرآنية فى القوامة
ويعقب الأستاذ العقاد بأنه يجزم بالصواب فيما يعلمه من دلالة الطبع ودلالة العقل، وأنه يفهم صواب الحكمة القرآنية التى أثبتت للرجل القوامة على المرأة فى الأسرة، وفى الحياة الاجتماعية. وقد يختلف كثيرون مع الأستاذ العقاد- بحكم العصر الآن- فى مد هذه القوامة إلى الحياة الاجتماعية التى صارت تشهد قوامة للمرأة فى غير قليل من الأحيان.
ومرة أخرى يعود الأستاذ العقاد هنا إلى بعض ما كتبه فى «هذه الشجرة» فيذكر أن الأخلاق التى يسمو بها الإنسان إلى مرتبة التبعة والحساب أو مسئولية الآداب والشريعة والدين هى أخلاق «تكليف وإرادة»، وليست أخلاق إجبار وتسخير، أو قسر وإرغام.
وأنه من هنا صح أن يقال إن المرأة كائن طبيعى وليست بالكائن الأخلاقى، وعلى ذلك المعنى الذى يمتاز به خلق الإنسان ولا يشترك فيه مع سائر الأحياء.
وهنا يتحدث عن «الاحتجاز الجنسى» ويقصد به امتلاك المرأة زمام المنح والمنع، وهى خصلة حتى فى غير الإنسان من المخلوقات، تراها فى صراع الديكة على إناث الدجاج، وتراها فى لهو القطة بالقط قبل أن تسمح له بما تريد، إلى غير ذلك من المخلوقات التى اختار أمثلة من طبائعها للتدليل على ما يريد.
وهو يرى أن هذا «الاحتجاز الجنسى» غريزة عامة بين كافة الإناث من جميع الأنواع، وأنه متى بلغ هذا الاحتجاز الجنسى مبلغه الذى قصدت إليه الطبيعة، تكون الأخلاق الأنثوية قد بلغت غايتها.
ومن ضلال الفهم أن يخطر على البال أن الحياء صفة أنثوية، وأن النساء أشد حياء من الرجال.
فالواقع- كما لا حظ شوبنهور الذى يستشهد به- أن المرأة لا تعرف الحياء بمعزل عن تلك الغريزة العامة، وأن الرجال قد يستحون مما لا تستحى منه النساء، ويشهد على ذلك سلوك الجنسين فى الحمامات العامة، إلاَّ ما كان لعيبٍ جسدىًّ تحب المرأة أن تواريه.
* * *
وينتقل الأستاذ العقاد من هذه المسألة التى أفاض فيها إفاضة لا أستطيع أن أجاريها، إلى الفصل الذى كان قد عقده على رأى المعرى فى المرأة، فيقتطع منه فقرات كاملة يتساند إليها، وأحيل من يحب على هذا المقال الذى تناولناه بالمجلد الأول عن المرأة فى رأى المعرى والعقاد. (المجلد /1 لمدينة العقاد ص 325 وما بعدها).
(5) مكانة المرأة
ربما كانت الحضارة المصرية القديمة، هى الحضارة الوحيدة من بين الحضارات القديمة- التى خولت المرأة «مركزا شرعيًّا» على حد تعبير الأستاذ العقاد، تعترف به الدولة والأمة، وتنال به المرأة حقوقا فى الأسرة والمجتمع، تشبه حقوق الرجل فيها.
أما الحضارات القديمة الأخرى، فكل ما نالته المرأة فيها من مكانة مرضية، إنما كانت تناله بباعث من بواعث العاطفة على حاليها.. الحميد والذميم.
وربما نالت المرأة حظًّا من الاهتمام بها فى عصور الترف والبذخ التى تنتهى إليها الحضارات الكبرى، ولكنها لم تنل ذلك لحقوق أو لتقدم الحضارة وارتقاء الشعور بين أصحابها، ولكن لأنهم نظروا إليها كمطلب من مطالب المتعة والوجاهة الاجتماعية أيضًا. ومن اللافت أنها نالت هذا الحظ من الاهتمام فى أوج الحضارة الرومانية فى الوقت الذى بقيت فيه قانونًا وعرفًا فى منزلة تقارب منزلة الرقيق!
وعلى ذلك لم يكن هذا الاهتمام الذى نالته المرأة للأمومة أو للمتعة- لم يكن يمثل مكانة «شرعية أو عرفية» تنسب إلى آداب المجتمع وقوانينه.
فشرعية «مانو» فى الهند- لم تكن تعرف للمرأة حقًّا مستقًّلا عن حق أبيها أو زوجها أو ولدها فى حالة وفاة الأب والزوج.
وكانت المرأة عند اليونان الأقدمين- مسلوبة الحرية والمكانة فى كل ما يرجع إلى الحقوق الشرعية، وكانت توضع فى المنازل الكبيرة فى موضع منفصل عن الطريق وقليل النوافذ محروس الأبواب، حتى لا تتطلع إلى الخارج أو تتواصل معه.
وربما ظن البعض الذى يسمعون عن الحرية «الاسبرطية» أنها ثمرة من ثمرات الارتقاء فى تقدير حق الإنسان من الذكور والإناث، بيد أنها لم تكن كذلك، يشهد على هذا قسوة نظام الرق العريق بين الاسبرطيين، وأن ما شاع بينهم من الاسترقان ومن التساهل مع النساء، إنما كان لعلة واحدة هى إشتغال الرجال الدائم بالقتال، وتركهم ما عداه اضطرارًا لتصرف المرأة فى غياب الأزواج والآباء.
أما فى مذهب الرومان الاقدمين، فقد كان كمذهب الهنود الأقدميين فى الحكم على المرأة بالقصور، وشعارهم أن قيد المرأة لا ينزع، ونيرها لا يُخلع، ولم تحرر المرأة الرومانية من هذه القيود إلاَّ يوم أن تحرر منها الأرقاء.
وانفردت الحضارة المصرية القديمة باكرام المرأة، وتخويلها حقوقًا «شرعية» قريبة من حقوق الرجل.
بيد أن هذه الحضارة المصرية كانت قد زالت فيما يقول الأستاذ العقاد وزالت شرائعها قبل عصر الإسلام، وسرت فى الشرق الأوسط آنذاك غاشية من كراهة الحياة الدنيا بعد سقوط الدولة الرومانية بما انغمست فيه من ترف وفساد وولع بالملذات والشهوات، وشاعت فى هذه الفترة عقيدة الزهد والإيمان بنجاسة الجسد ونجاسة المرأة، وباءت المرأة بلعنة الخطيئة، وصار الابتعاد عنها حسنة مأثورة.