الأخلاق والآداب
وهذا هو عنوان الفصل الرابع والأخير من الكتاب، وهو يدور حول النقائض المزعومة، وأخلاق القوة، والأخلاق المحمودة، ومقياس الأخلاق والآداب، وهدى الأسماء الحسنى ثم الختام.
النقائض المزعومة
وهى نقائض ادعاها نقاد أجانب مردها إما إلى الجهل بالإسلام، أول الجهل باللغة العربية.
من ذلك كتاب لأحدهم عن «الشيطان» جعل يلم فيه بصفة «إبليس» المذكورة فى الإسلام، ويستغرب من الدين أن يقول عن الله إنه أمر الملائكة بالسجود لآدم، مع أنه الدين الذى اشتهر بالتشدد فى إنكار وتكفير كل سجود لغير الله.
ومرجع خطأ الكاتب أنه فهم السجود بمعنى الصلاة دون غيرها من معانى الكلمة فى اللغة العربية، وهى معان معروفة فى اللغة العربية قبل أن يعرف العرب صلاة الإسلام.. ولم يفهم العرب من الكلمة أنها تنصرف إلى العبادة دون غيرها، من ذلك أنهم يقولون : «سجدت عينه» أى أغضت، وأسجد عينه أى غض منها، وسجد أى غض رأسه بالتحية.. ولا تناقض على معنى من هذه المعانى بين السجود لآدم وتوحيد الله. فالسجود هنا هو التعظيم المستفاد من القصة كلها، وهو تعظيم الإنسان على غيره من المخلوقات.. والذى فيه قال القرآن الكريم «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» (الإسراء 70).
وبعض هؤلاء النقاد يرى أن الإسلام مناقض بطبيعته للعمل والسعى، لأنهم فهموا خطًأ أن الإسلام تواكل وتسليم إلى الله بغير حاجة إلى الحول والقوة، لأنه لا حول ولا قوة إلاّ بالله.
وجهل هؤلاء بالفهم أكبر من جهلهم باللغة.. فالإسلام أكثر دين دعا للعمل والسعى، وهو يحرم على المسلم أن يسلم للظلم أو للتحكم، وينهاه أن يستسلم للخيبة وللقسمة الجائرة، أو أن يستسلم لقضاء لا يرضاه ويعلم أن الله لا يرضاه.
وبعضهم رأى أن الإسلام والسلم نقيضان، لأنه فهم كلمة أسلم على أنها من قبيل التسليم فى الحرب أو تحاشيًا وخوفًا من القتال.. وفات هؤلاء أن كلمة «أسلم» فى الحرب مأخوذة من إعطاء اليد أو بسطها للمصافحة، وأن مقصود الكلمة فى الدين أنها استقبال الله والاتجاه إليه، وأن من أسلم وجهه الله فقد استقبل طريقه وأعطاه وجهه.
وقد ورد فى قصة إبراهيم عليه السلام فى سورة البقرة بالقرآن الكريم، قوله عز وجل لنبيه أن أسلم قال أسلمت لرب العالمين…
«وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ» (البقرة 130، 131).
الأخلاق فى الإسلام
يتساءل الأستاذ العقاد، هل هذه الأخلاق هى أخلاق قوة ؟ أو أخلاق محبة، أو هى أخلاق قصد واعتدال ؟ وهل هى أخلاق اجتماعية ؟ وهل هى أخلاق إنسانية؟
ويجيب عن أخلاق القوة بأنها كذلك أحيانًا، ولكنها ليست كذلك فى جميع الأحيان، لأن أخلاق القوة قد تفهم على وجوه متعددة، أو متناقضة، يحمد الإسلام بعضها ولا يحمد بعضها.
وقد توصف الأخلاق بأنها «أخلاق محبة»، لأن أصول العلاقات بين الناس قائمة فى الإسلام على شرعة المحبة والأخوة كأن الجميع من أسرة واحدة، ولكن الإسلام ينكر على المسلم أن يحب الخبيث كما يحب الطيب، ويعرف العداوة من أجل الحق كما يعرف الصداقة فيه.
كما أن قوام الأخلاق كله- ليس فى التوسط أو فى القصد والاعتدال على مذهب الفلسفة اليونانية أو فلسفة أرسطو على وجه الخصوص.
أخلاق القوة
اقتران هذا التعبير باسم «فردريك نيتشه» رسول السوبر مان.
والسوبر مان عنده لا يرحم ولا يغفر ولا يعرف للضعيف نصيبًا من «الإنسان الأعلى» غير نصيب الزراية والإذلال.
والأخلاق عنده قسمان : قسم للسادة لا يقبله للعبيد، وقسم للعبيد لا يقبله السادة.
وقد عرفت أخلاق القوة قبل نيتشه بتفسير يجعل القوة مرادفة للاستحسان.
والناس على زعم نيتشه ومثله الفيلسوف هوبز، يحمدون الرحمة لأنهم يحمدون القوة. ويحمدون العفو لأن الذى يعفو يعفو بقوته. ويحمدون الكرم لأنه عطاء. ويحمدون الدهاء لأنه قوة فى العقل يتمكن صاحبها من تسخير سواه، ويحمدون الذكاء والحذق والمعرفة والبراعة لأنها من علامات القوة. أما العظمة والمجد والشجاعة فلا حاجة بها إلى تفسير انتمائها للقوة.
وهذه الفضائل أو المزايا- فى نظرهم تفيد أصحابها قوة كما تنم فيهم على القوة..
وقالوا إن الشجاعة وسط بين التهور والجبن، وأن الكرم وسط بين الإسراف والبخل، والصبر وسط بين الجمود والجزع، والحلم وسط بين النزق والبلادة، والرحمة وسط بين القسوة والخور.. وهكذا كل فضيلة : وسط بين غايتين.
القوة والاعتدال
مناط القول، أن الإسلام لا يحمد من الأخلاق- أن تكون حيلة إلى طلب القوة، بل يحمد فيها أن تكون وسيلة إلى «طلب الكمال».
ويلتبس الأمر على أصحاب مدرسة التوسط، لأنهم ينظرون فى تقدير الكرم مثلاً إلى المال المبذول وإلى مصلحة الباذل فى حساب المال.. ولن يكون هناك التباس إذا نظروا للباعث والموجب والمصلحة فى عمومها ولو ناقضت مصلحة الباذل فى بعض الأحيان.
وخلاصة المقارنة بين التطرف والتوسط، هى أنه فى النهاية مسالة نسبية.
غير أن مذهب الاعتدال- مع هذا- هو أقرب المذاهب إلى فهم الأخلاق المحمودة فى الإسلام.
مقياس الأخلاق والآداب
مجمل الرأى أن المجتمع يقاس بالدين وليس الدين يقاس بالمجتمع.
ولابد من الفضائل الإلهية فى تعليم الإنسان مكارم الأخلاق، والواقع أن الإنسان لم يكتسب أفضل أخلاقه إلاّ من الإيمان بمصدر سماوى يعلو على طبيعته الأرضية.
وهذا هو المقياس الأرقى لمكارم الأخلاق فى الإسلام..
ليس المقياس أنها أخلاق قوة، أو أنها أوساط بين أطراف، أو لأنها ترجمان لمنفعة المجتمع أو منفعة النوع الإنسانى.
وإنما مقياس أنها أخلاق كاملة، وأن الكمال اقتراب من الله..
ولله المثل الأعلى..
وكل صفة من صفات الله الحسنى محفوظة فى القرآن الكريم، يترسمها المسلم ليبلغ فيها غاية المستطاع فى طاقة المخلوق..
إن الدين الإسلامى بجملته وعقائده آدابه، يستحب القوى للمسلم، ولكنها ليست القوة المتجبرة، وإنما التى تعطف على الضعيف وتحسن إلى المسكين واليتيم.. وليست القوة التى تصان بالجبروت والخيلاء.
«إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» (لقمان 18).
«فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» (النحل 29).
«أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ» (الزمر 60).
ولا يستحب الإسلام القوة للقوى إلا ليدفع بها عدوان الأقوياء على المستضعفين العاجزين عن دفع العدوان:
«وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ» (النساء 75).
ولم يوصف الله بالكبرياء فى مقام الوعيد للكبرياء بالنكال والإذلال، إلا ليذكر المتكبر الجبار أن الله أقدر منه على التكبر والجبروت.
والإسلام يزكى مذهب التوسط فيما يقبل التوسط بالمقادير أو بالدرجات كالإنفاق الذى ينتهى الإسراف فيه إلى اللوم والحسرة :
«وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا» (الإسراء 29).
«وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا» (الفرقان 67).
«كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (الأنعام 141).
«وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (الأعراف 31).
* * *
ولكن القسطاس فى فضائل الإسلام لا يرجع إلى المقدار والتوسط فيه، بل يرجع إلى الواجب وما يقتضيه لكل أمر من الأمور، فإذا وجب بذل المال كله وبذل الحياة معه فى سبيل الحق فلا هوادة ولا توسط هنا بين طرفين، وإنما هو واجب واحد يحمد من المرء أن يذهب فيه إلى أقصاه..
الأسماء الحسنى
الإنسان مأمور أن ينظر فى صفات الله الحسنى كما تجلت فى أسمائه، فهى قبلته التى يهتدى بها إلى مكارم الأخلاق بما فى وسعه. وهذه الأخلاق كثيرة وافية بخير ما يتحراه الإنسان فى مراتب الكمال.
ومن أدب الإسلام أنه يقدم للمجتمع الإنسان الإجتماعى الكامل فى أقوى صورة من الخلق والأدب والسلوك.
وإذا ما وفى المسلم بأمانة الشكر وعرفان الجميل، فلا ينسى أنه مدين لهذا الدين الحنيف بوجوده الروحى ووجوده المادى فى حاضره الذى وصل إليه بعد عهود شتى من المحن والبلاء. ولولا هذه العروة الوثقى التى اعتصم بها لضاع بوجوده الروحى ووجوده المادى فى غمار يمحوه ولا يبقى له على معالم بقاء.
ومن حق هذا الدين عليه أنه يسلمه إلى الدنيا «قوة» يعتصم بها العالم فى مستقبله بين الأعاصير التى ابتليت بها الإنسانية.
من أمانة الدين، الإيمان بإرادة الله كما تتجلى لخلقه يؤديها كل من عرفها بمقدار ما عرفه منها، ويذكر معها نعمة الرسالة الإلهية التى افتتحت باسم الله الرحمن الرحيم وتختتم بحمد لله رب العالمين.
Email: [email protected]
www.ragai2009.com