فى إطار اهتمامه بالعقائد والمذاهب، ونظم الحكم وفلاسفته وما يموج من نظريات قريبة أو بعيدة الصلة بهذه أو تلك كتب الأستاذ العقاد كتيبًا صغيرًا فى حجمه، عميقًا فى فكره: «أفيون الشعوب المذاهب الهدامة» صدر بالقاهرة سنه 1956، ونشرته مكتبه الأنجلو المصرية، وأعيد نشره فى بيروت ضمن المجلد/13 للمجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد، ودار هذا الكتاب حول المذاهب الهدامة، والعلم وهذه المذاهب، وموقف وحال الناشئة من هذه الدعوات، ونظر المذهب للعائلة والوطن والدين، منوهًا بأن المتطرفين يهدمون أهم ما فى الدين لحضارة الإنسان، ويتحدث فيما يتحدث به عن الماركسية والشيوعية والوجودية أو الوجدانية، والفوضوية والوجودية، ثم المدرسة الرمزية، وأخيرًا ما هو المصير كما يتوقعه ويراه.
وتقول مقدمة العقاد للطبعة الثانية، أن الطبعة الأولى للكتاب نفدت فى بضعة أسابيع وهذه حجة على صدق وصف المذاهب الهدامة بأنها أفيون الشعوب.
يقول كارل ماركس وأتباعه إن الأديان أفيون الشعوب وأن الناس تقبل على الأديان لأنها تخدرهم وتلهيهم عن شقاء الحياة. وهذا هراء ينطبق مضمونه على الماركسية ذاتها.
فالشعور بالمسئولية والمسكرات ومشتقاتها نقيضان، والأديان توقظ الشعور بالمسئولية، وتحذر فى الوقت نفسه من مقارفة الذنوب وهى حصاد المسكرات والمخدرات.
وعلى النقيض، فإن مذهب ماركس ذاته هو الذى يرفع عن الضمير شعوره بالمسئولية لأنه يلقى بالمسئوليات كلها على المجتمع، بينما يسعى سحر الماركسية الزائف إلى استهواء السفلة إليه، فيجدونه فى الماركسية بلا عناء ولا ثمن.
وإن الماركسيين ليتحدثون كثيرا ويفيضون فى الحديث عن «المذهب العلمى» للتاريخ، ويكثرون من ذكر العلم والبحث والاستقراء، ولكنك واجدٌ فيهم أن الحسد يعميهم عن كل فضيلة ومنها قيمة المعرفة والاستقراء.
ولا غرو إذن فى أن الماركسية لا الدين هى بالفعل أفيون الشعوب !
العلم والمذاهب الهدامة
ومن الدعاوى العريضة التى يدعيها أصحاب المذاهب الهدامة، ادعاؤهم بأنهم يتجنبون الأوهام والخيالات، ويعتمدون على الحقائق العلمية التى تعلق بها دعاة الإصلاح الأقدمون. ومن أجل ذلك يسمون الاشتراكيين السابقين لهم بالحالمين، وينعتونهم بأنهم خادعون مخدوعون، وأن اشتراكيتهم الحديثة التى يبشرون بها لا تقيم وزنًا لغير الواقع المقرر بالتجربة والمشاهدة، ولا تَعِد الناس بشئ ذى بال.
ويشهد على إن ادعائهم الصفة العلمية محض ادعاء يخالفه الواقع، أنهم يسمون مذهبهم بالمذهب المادى قاصدين أنهم يفسرون كل حوادث التاريخ بالأسباب المادية، ولكنهم يخطئون فى الواقع فى تفسير أكبر الحوادث مثلما يخطئون فى تفسير أهونها وأصغرها.
يعللون مثلا انقضاء عصور الفرسان والنبلاء، بظهور البارود وظهور المدن التجارية وتحكم كبار التجار فيها.
ويقولون إن الفرسان سادوا الولايات بخبرتهم بالحرب وفنون النزال، ولذا زال سلطانهم بعد اختراع البارود الذى جعل استخدام السلاح سهلاً على عامة الناس. وقالوا عن انتشار المدن التجارية إنه قد حول النفوذ الى التجار الكبار وأصحاب الأموال، ولهذا زالت سيادة الفرسان والإقطاعيين، وسادت بدلهم الطبقة البرجوازية.
ولا يخفى أن تفسير الحركة البرجوازية هو أهم المسائل فى الدعوات الهدامة، ولكن هل صحيح أن البارود والمدن التجارية قد حققا بالفعل هذا الأثر فى تطورات التاريخ ؟
لقد ظهر البارود، وظهرت المطبعة فى الصين قبل ظهورهما فى الغرب بعدة أجيال، كما راجت المدن التجارية فيها وراجت تجارتها من قبل عصر الميلاد ! ومع ذلك لم يحدث فى الصين ما حدث فى القارة الأوروبية، برغم تفسيرهم المادى للتاريخ!
كذلك لم تصدق نبوءاتهم للمستقبل أن الصناعة تتقدم فى البلاد التى تسرع إليها الماركسية، بينما يشهد الواقع أن الصناعة تأخرت فى تلك البلاد، على النقيض من تفسيرات الماديين. والحقيقة أن هذا التأخر هو الذى يدفع إلى المذاهب الهدامة، وظهر ذلك فى روسيا ثم فى إيطاليا وإسبانيا، بينما كانت العصمة من المذاهب الهدامة على أشدها فى الأمم الصناعية العريقة.
ومن نبوءاتهم العلمية، توقع نقص أجور العمال والصناع كلما تضخمت المصانع وتضاعف رأس المال، بينما يقول الواقع العلمى إن الأجور تزداد مع تقدم الصناعة، وإن العمال يزدادون اعتمادًا على الوسائل الدستورية أو البرلمانية فى تحسين أجورهم.
ومن الجهل بالحقائق، أو تجاوزها، القول بأن ثورات هذا العصر دليل على صدق النبوءات الشيوعية، وأن العالم يمضى إلى الخاتمة التى توقعها كارل ماركس وتلاميذه، بينما الثورات لم تنقطع فى القرن التاسع عشر، ولم تنقطع فى القرن الثامن عشر، ولا انقطعت فى القرون الوسطى، ولا انقطعت قبل ذلك فى الدولة الرومانية. وحدثت هذه الثورات لأسباب كثيرة، منها العقيدة، أو للوطن، أو للخلاص من حاكم أو استبداله.
والخلاصة التى يستخلصها العقاد، أن الاشتراكية العلمية ليست من العلم، ولم تصدق نبوءاتها، بل طفق يبين أن وسائل الإنتاج تؤول شيئًا فشيئًا إلى خبراء الصناعة والاقتصاد والدعوة. كما تبين أن الثروة لا تؤول إلى العامل الصغير بمجرد زوال رأس المال، بل تستولى على الإدارة طبقة الأخصائيين الفنيين التى لا تستغنى عنها الحكومات، وأن المؤشرات تورى بأن الدول هى التى ستكون المتصرفة فى الإنتاج وفى تصريف المصنوعات. وهكذا يأتى الحاضر بتكذيب تلك النبوءات.
ولو كانت للمذاهب الهدامة فلسفة مقنعه لما عوَّل دعاتها على الجهلاء، وقد يتفق لهم موافقة طائفة من المتعلمين أو العلماء، وحال هؤلاء إما أن يكونوا زمرة ممسوخة الطبائع مطوية على الحسد والبغضاء والغرور، وإما أن يكونوا مخدوعين يتحولون عن الخديعة بعد العلم بحقائقها. وعلى ذلك فالاشتراكية العلمية فى نظر العقاد خرافة لا علم فيها، وليس أدل على افتقادها للعلم الادعاء بأن زعيمها كارل ماركس قد فرض على المستقبل نظامًا لن يختلف بعد آلاف السنين، ومن الخرافة أن يستطيع فرد واحد أن يسلط فكره على الدهور المقبلة إلى غير نهاية.
وبعد، فقد لا تجارى العقاد فى كل منطقه وحججه، وقد ترى أنه متحامل فى عدائه للشيوعية، ولكن يقول الواقع الذى شاهدناه بعد ثلاثين عاما من وفاة العقاد، أن الشيوعية تعرضت بالبروسترويكا إلى انقلاب ضخم تفكك فيه الاتحاد السوفيتى، وتغيرت الخريطة الاقتصادية والجغرافية والاجتماعية فى المعسكر الشيوعى، على نحو قد لا يتسع هذا المجال للإفاضة فيه، ولكنه على الإجمال قرينة على أن العقاد لم يكن بعيدًا تمامًا عن الصواب فى رؤيته وفيما شنه من هجوم أو انتقاد.
(يتبع)
Email: [email protected]
www.ragai2009.com