في قرية شارماري الواقعة في منطقة سيلهت شمال شرق بنجلاديش، عاش محمد رحيم مع أسرته التي تعتمد على زراعة الأرز كمصدر رئيس للرزق.
من بنجلاديش، جاء رحيم الابن (19 عامًا) إلى القاهرة، بعدما نجح في الحصول على منحة للدراسة في جامعة الأزهر بكلية أصول الدين.
يحكي رحيم الابن لـ”المال” عن تضرر أسرته البالغ، من جراء عدة فيضانات أصابت بلاده أثناء أغسطس/آب الماضي تسببت في هلاك محصول العائلة.
يقصد رحيم، تعرّض بنجلاديش لفيضانات شديدة نجمت عن أمطار موسمية غزيرة، أضرت بملايين الأشخاص، خاصة في المناطق الشرقية والشمالية بالبلاد.
رحيم الابن يقول -بلغة عربية واهنة- إن أسعار المواد الغذائية في بلاده ارتفعت بنسبة تناهز 20%، خلال الأشهر الأخيرة فقط، ما زاد من معاناة المزارعين، كأسرته.
وكانت الأضرار الزراعية الأكثر حدة في بنجلاديش، إذ دُمّر حوالي 1.1 مليون طن متري من محصول الأرز بالبلاد، والتي تُقدر خسائره بحوالي 45 مليار تاكا، وهو ما يقابل 380 مليون دولار.
وحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، يُتوقع انخفاض إنتاج المحاصيل المعتمدة على الأمطار في آسيا بنسبة تتراوح بين 10% و50% بحلول 2030، نتيجة لتغير المناخ.
أما سعيد الذي وُلد وتربّى بالعرائش المغربية، ورث عن أبيه دكانًا يبيع فيه أنواعًا من السمك الخاصة المستوردة، ومنها “الهامور”، التي تستوردها الشركات الوطنية من الفلبين.
يشير سعيد (42 سنة) إلى أنه -منذ سنوات- افتتح مطعمًا متواضعًا يقدم أطباق “الهامور” الطازجة، وكان ذلك مصدر رزقه الأساسي إلى جانب ما ورثه عن أبيه، وازدهر العمل لفترة، لا سيما بعدما أصبح زبائنه يشدون إليه الرحال للاستمتاع ببضاعته.
صاحب شركة التصدير إدواردو، في سيبو الفلبينية، قال لسعيد إن ارتفاع درجات حرارة المحيط إثر تغير المناخ أدى لانخفاض أعداد هذه الأنواع من السمك بشكل ملحوظ، ما أثّر على تجارتهما معًا.
في الواقع، يقول سعيد لـ”المال”، إن نقص كميات السمك دفع إدواردو (53 سنة) إلى تقليص توريده للتجار وتسريح عدد من العمال المشتغلين معه.
وتُشير التوقعات إلى انخفاض ثراء المحيطات بمختلف أنواع السمك بنسبة تصل إلى 35% بحلول 2090، حسب المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية (روبمي).
فارتفاع درجة حرارة المحيط الناتج عن تغير المناخ وممارسات الصيد الضارة أدت إلى جعل محيطات الفلبين، التي كانت مزدهرة في السابق، خالية من الأسماك، مما أثر على سبل عيش ملايين الأشخاص.
تغير المناخ وتداعياته على الأمن الغذائي
رحيم وسعيد وإدواردو، أمثلة بسيطة على أزمة تغير المناخ المهددة للأمن الغذائي العالمي، فالظواهر الجوية المتطرفة، كالأمطار الغزيرة المفاجئة والجفاف الطويل، تؤدي إلى اشتداد التنافس على الموارد الأساسية مثل المياه والطعام.
وحسب منظمة الصحة العالمية (WHO)، فإن فردًا واحدًا من بين كل 9 أشخاص حول العالم من يعاني الجوع يوميًا، بينما يعتمد حوالي 2.5 مليار شخص على الزراعة لكسب عيشهم.
فالتغيرات المناخية وتلوث الهواء لا يؤثران فقط على إمدادات الغذاء العالمية، بل يُضاعفان أيضًا من معاناة الفئات الأكثر ضعفًا، والذين يعانون بالفعل من سوء التغذية والجوع، حسب الأمم المتحدة.
وحسب آخر تقرير للبنك الدولي، فإن مستويات الأمن الغذائي ما تزال تشكّل مصدر قلق كبير، لا سيما في البلدان منخفضة الدخل، إذ يقدر عدد من يعانون من انعدام الأمن الغذائي في شرق أفريقيا بنحو61.6 مليون شخص، في حين يُتوقع أن يواجه ما يقرب من50 مليونًا هذه الأزمة في غرب ووسط أفريقيا، وتظل الصراعات وتغير المناخ من العوامل الرئيسة التي تؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي في تلك المناطق.
وتشهد العديد من البلدان منخفضة الدخل ارتفاعًا مستمرًا في تضخم أسعار الغذاء، ففي الفترة بين أكتوبر/تشرين الأول 2024 ويناير/كانون الثاني 2025، عانت 73.7% من الدول النامية تضخمًا أعلى من 5%.
ومنذ بداية 2025، شهدت أسعار المحاصيل الرئيسة تقلبات ملحوظة، فارتفعت أسعار الذرة بنسبة 10%، بينما انخفضت أسعار القمح والأرز بنسبة 6% و19% على التوالي، إلا أنه بالمقارنة بمستويات يناير 2020، فإن أسعار الذرة ارتفعت بنسبة 27%، بينما انخفضت أسعار القمح بنسبة 2%، وزادت أسعار الأرز بنسبة 14%، حسب بيانات البنك الدولي لشهر مارس الجاري.
ووفق بيانات نشرة رصد الأسواق الزراعية لشهر فبراير/شباط الماضي، فإن أسعار القمح والذرة والأرز وفول الصويا، عالميًا، انخفضت مقارنة بالعام السابق، باستثناء الذرة التي وصلت أسعار تصديرها إلى أعلى مستوى لها خلال 15 شهرًا بسبب المخاوف المتعلقة بالإمدادات.
وما يزال قطاع الغذاء العالمي يعاني نقصًا حادًا في التمويل، حيث يتم تخصيص 6.3 مليارات دولار له، مقارنة بـ10.3 مليارات دولار مخصصة للمساعدات الإنسانية العالمية، حسب بيانات الشبكة العالمية لمكافحة أزمات الغذاء (GNAFC).
وفي هذا السياق، تؤكد إحصاءات البنك الدولي هشاشة الأمن الغذائي العالمي، حيث تحذر أحدث التقارير للعام الجاري من استمرار حالة الركود الاقتصادي، إذ يُتوقع أن يظل معدل النمو العالمي عند 2.7% حتى العام المقبل، ورغم أن هذا الاستقرار قد يبدو مطمئنًا، إلا أنه لا يكفي لخفض معدلات الفقر أو التخفيف من تزايد انعدام الأمن الغذائي، لا سيما في البلدان منخفضة الدخل.
خسائر التغير المناخي.. غير متوقعة
البروفيسور مراد كواتشي، أستاذ الاقتصاد بجامعة أم البواقي وعضو المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الجزائري (CNESE)، يبيّن لـ”المال” أن تراجع الإنتاج الزراعي يهدد سُبل عيش ملايين الأفراد، إذ تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 20 مليون شخص يُجبرون سنويًا على النزوح داخل بلدانهم نتيجة للكوارث المناخية، مثل الفيضانات والعواصف وارتفاع مستوى سطح البحر، حسب الأمم المتحدة والجمعية الدولية للصليب والهلال الأحمرين (IFRC).
بينما يؤدي تغير المناخ، حسب “كواتشي” إلى تفاقم مشكلات ندرة الموارد، ويزيد من تعقيد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، خاصة في الدول التي تعاني الهشاشة السياسية والاقتصادية، كما أن استمرارية ارتفاع درجات الحرارة العالمية تؤدي إلى تزايد فترات الجفاف الشديد، الذي يخلق تآكل التربة وجفاف أراضي الرعي وانخفاض إنتاجية المحاصيل، لا سيما وأن الفيضانات تدمّر الأراضي الزراعية والبنية التحتية، ما يزيد من ندرة الموارد المائية.
بينما تؤدي التغيرات غير المتوقعة في أنماط الطقس والكوارث الطبيعية، والموجات الحرارية إلى «انخفاض إنتاج المحاصيل الزراعية، بما في ذلك الأرز والذرة وفول الصويا والقمح، كما أن تلوث الهواء يتسبب في تراجع قيمتها الغذائية»، يقول عضو المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الجزائري.
ويؤثر تلوث الهواء سلبًا على نمو المحاصيل، حيث يُقدَّر أن “أوزون التروبوسفير” وحده يتسبب في خسائر سنوية تناهز 110 ملايين طن من المحاصيل الأساسية، بما في ذلك القمح والأرز والذرة وفول الصويا، ما يعادل نحو 4% من إجمالي الإنتاج الزراعي العالمي، وترتفع تلك النسبة إلى 15% ببعض المناطق، حسب مركز المملكة المتحدة للبيئة والهيدرولوجيا (UKCEH).
الأمر واقعي وبعض الدول غافلة
لـ”المال” تقول الدكتورة دينا معوض، مدرس السياسات الاقتصادية بجامعة علوم الطعام في إيطاليا، إن العالم -فعليًا- يعاني من أزمة أمن غذائي من جراء تغير المناخ، فالأخير يؤثر على إنتاج المحاصيل والحد من جودة الأراضي الزراعية، إضافة إلى أن ارتفاع درجات الحرارة تؤدي إلى انتشار أمراض النبات وآفاته.
وحسب “دينا”، فإن تغير المناخ عالميًا يؤثر بشكل ملحوظ على موارد المياه، سواء كان ارتفاع درجات الحرارة مفاجئًا أو بطيئًا، إذ يؤثر في الحالتين على إنتاجية المحاصيل الحيوية، مثل القمح والشعير والذرة، لا سيما وأن مصر -كمثال على الدول النامية- تعاني من مشكلات في سلاسل الإمداد الغذائية.
كما أن التغير المناخي قد يكون “صادمًا” أو “بطيئًا” يستغرق أمدًا بعيدًا لظهور آثاره، كالتصحر الناتج عن الجفاف، وهذا الأخير إنما تسببه بعض النشاطات البشرية التي تخلّف الانبعاثات الكربونية واستخدام الوقود والاعتماد على الصناعات المخلّفة للغازات الدفيئة، وفق ما تذكره عضو هيئة التدريس بجامعة علوم الطعام الإيطالية.
الاحترار العالمي والملوثات قصيرة العمر
ويضيف عضو المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الجزائري، أن ارتفاع درجات الحرارة تزيد من تفشّي الآفات والأمراض، وتكرار موجات الجفاف والفيضانات الشديدة، بينما يؤدي الإجهاد الحراري إلى تراجع إنتاج المحاصيل، أو حتى فشلها التام، ما يضغط على النظم الغذائية المحلية والعالمية، ويزيد من احتمالات حدوث اضطرابات في سلاسل التوريد والمنافسة على الموارد الطبيعية المحدودة في البلدان الفقيرة.
كما تؤثر الملوثات قصيرة العمر بشكل مباشر على المناخات المحلية إضافةً إلى دورها في تسريع تغير المناخ، حسب “كواتشي”، حيث تغيّر أنماط هطول الأمطار والظروف الجوية، ما يؤثر سلبًا على الإنتاج الزراعي بالتبعية، كما يُعد الكربون الأسود -لمن لا يعلم- أحد الملوثات التي تساهم في ذوبان الغطاء الجليدي العالمي، مما يقلل من مصادر المياه العذبة التي يعتمد عليها مليارات الأشخاص حول العالم.
ويستطرد الأستاذ بجامعة أم البواقي: «بما أن هذه الملوثات تبقى في الغلاف الجوي لفترة قصيرة نسبيًا، من أيام إلى عقود قليلة، فإن خفضها يمكن أن يسهم بسرعة في إبطاء الاحترار العالمي، ويحدّ من الأضرار التي قد تصبح غير قابلة للإصلاح، لا سيما في المناطق الأكثر حساسية مناخيًا».
وحسب تحالف المناخ والهواء النظيف (CCAC)، فإن الملوثات المناخية قصيرة العمر (SLCPs) مثل الميثان ومركبات الكربون الهيدروفلورية(HFCs) والكربون الأسود وأوزون التروبوسفير، تعد من العوامل الرئيسة في الاحترار العالمي، إذ تُسهم بما يناهز 50% من الاحتباس الحراري.
وحسب (AACA) فإن تقليل انبعاثات الملوثات المناخية قصيرة العمر يمكن أن يحد من ارتفاع الاحترار العالمي بمقدار 0.6 درجة مئوية بحلول 2050، كأفضل فرصة متاحة للحد من أخطار الإنتاج الغذائي.
الاحترار.. أهم ظواهر التغير المناخي
وتشير “دينا” إلى أن الظاهرة الأهم للتغير المناخي تتمثل في ارتفاع درجات الحرارة، وتلك الأخيرة قد تتفاقم وتؤدي إلى كوارث طبيعية مثل حرائق الغابات أو إزالتها، فضلًا عن أن تغير نمط الأمطار زيادة أو نقصانًا ربما يهلك الحرث والنسل بسبب الفيضانات التي تخلفها ببعض البلدان، إضافة إلى خسائر ضخمة في البنى التحتية والمحاصيل الزراعية والأرواح.
وذكرت الباحثة أن ارتفاع مستوى سطح البحر يطغى على النشاط الزراعي والحيوي، على حد سواء، في المناطق الساحلية، وذلك بسبب انحسار اليابسة تحت أمواج المياه المالحة وزيادة نسبة ملوحة المياه الجوفية، والتي تعتمد عليها الزراعة بشكل كبير في تلك المناطق، ما يجعلها مياهًا غير صالحة للزراعة أو الاستخدام.
وعن ارتفاع درجات حرارة المحيطات، تضيف “دينا” أن ذلك يؤدي بشكل كبير على هلاك السمك، لا سيما سياسات الصيد الجائر المعتمدة على الديناميت أو السموم الهادفة لاستخراج كميات أكبر من المأكولات البحرية.
كما أن التغير المناخي يؤثر سلبًا كذلك على نمو المحاصيل، إذ يقلل الإنتاجية من جراء نقص المياه اللازمة للري، وهذا ما يؤدي إلى الاستعاضة عنها بالمبيدات الحشرية، والتي تؤثر بدورها على جودة المحاصيل، وقد يدفع إلى تآكل التربة وجعلها غير صالحة للزراعة مع إضعاف قدرتها على إنماء المحاصيل، ولا سيما في الدول النامية، حسب ما قالته عضو هيئة التدريس بجامعة علوم الطعام الإيطالية.
وفي دراسة مسحية أجرتها “كونتنتال ري” لإعادة التأمين بعنوان “التضخم وضعف العملات وتغير المناخ يتصدران قائمة المخاوف التي تواجه الاقتصادات الأفريقية” نشرت بنهاية أكتوبر 2022، قالت إن نحو 13% من المشاركين في استطلاع أجرته الشركة يعدون مخاطر تغير المناخ ذات تهديد متزايد، وبيّنوا أن الشركات لا بد أن تتكيف مع نماذج أعمالها لإدارة أنماط الطقس المتغيرة (الجفاف، الأعاصير، الفيضانات).
الدول النامية “على فيض الكريم”
«مصر على سبيل المثال، تأثرت بشكل واضح من جراء الجفاف الناتج عن موجات الحرارة العالية التي أدت إلى الفقر المائي ببعض الأماكن، ما خلّف نقصًا في المياه وأدى بدوره إلى فقدان القدر الكافي من المحاصيل الإستراتيجية، كالقمح والشعير والذرة، التي تعد أشد حساسية جدًا لقاء تغير درجات الحرارة أيضًا»، تقول “دينا”.
وتوضح أن الاحتباس الحراري أشد تأثيرًا على الدول النامية، ما يدفع إلى زيادة نسب الجوع والفقر من جراء انعدام الأمن الغذائي، ومن ثم زيادة نسب الفقر والجوع، لا سيما بلدان أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهو ما يؤدي إلى هجرة الأشخاص قسريًا من مواطنهم بحثًا عن الغذاء وسبل العيش الكريم.
فالهند وباكستان ستكونان أكثر الدول تأثرًا بسبب تغير المناخ الذي يؤدي إلى نقص المحاصيل، لا سيما الأرز، حسب تصريحات “دينا”، بينما بعض بلدان أمريكا اللاتينية فاقدة للاستقرار الاقتصادي والسياسي أصلًا، ما يعرقل جهود الأمن الغذائي العالمي.
وحسب بيانات شركة “ستاتيستا”، فإن قارة أفريقيا تتحمل عبء أزمة لم تكن مسئولة عن نشأتها إلا بنسبة ضئيلة، إذ لا تتجاوز مساهمتها في الانبعاثات العالمية للغازات الدفيئة 4%، إلا أنها رغم ذلك تعد من أكثر المناطق عرضة لتداعيات تغير المناخ الناجم عن الأنشطة البشرية، ما يجعل العديد من الدول الأفريقية في صدارة البلدان الأكثر تضررًا، إثر ارتفاع درجات الحرارة المؤدي إلى تفاقم الأزمات الزراعية، ما يهدد الأمن الغذائي، ويؤدي إلى اتساع رقعة الفقر، ويعوق النمو الاقتصادي.
الدول النامية تُصارِع ضَوارٍ
يقول حازم حسانين، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والباحث الحاصل على الدكتوراة في فلسفة الاقتصاد، إن تفاقم الظواهر المناخية المتطرفة، مثل الفيضانات والجفاف، تعرض الأراضي الزراعية للتلف، ما يؤدي إلى انخفاض الوفرة الغذائية وتراجع معدلات إنتاج المحاصيل، خاصة في المناطق التي تعتمد بشكل كلي على الزراعة كمصدر رئيس للدخل، مثل الكاميرون.
فارتفاع درجة حرارة المحيطات، حسب تصريحات “حسانين” لـ”المال”، يتسبب في تدمير مصايد الأسماك، ما يؤدي إلى انخفاض إنتاجها وزيادة أسعارها، كما أن ارتفاع مستوى سطح البحر في جزر المحيط الهادي يهدد الشعاب المرجانية وعمليات الصيد أيضًا، ما يزيد من صعوبة تأمين الغذاء، لا سيما للفئات الأشد فقرًا.
على سبيل المثال، تعاني جزيرة توفالو في المحيط الهادي من ارتفاع مستوى سطح البحر بشكل مستمر، ما يهدد بإغراق أراضيها بحلول عام 2100، وذلك بسبب زيادة ذوبان نسب الجليد، وهذا ما دفع الحكومة هنالك على إنشاء مناطق مرتفعة لحماية سكانها من الكوارث المستقبلية، حسبما أشار إليه عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي.
ويستطرد “حسانين” أن الصومال، مثلًا، شهد مؤخرًا تغير أنماط هطول الأمطار إلى حد الندرة، ما ساهم في تصاعد معدلات العنف العشائري على منابع المياه، كما ارتفعت حالات الزواج المبكر كوسيلة تلجأ إليها الأسر للتكيف مع الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، فالنساء هنّ من يحملن مسئولية توفير المياه للعائلات، وهذا ما يعرضهن لمخاطر العنف أثناء جمع الموارد، ناهيك عن انخفاض فرصهن التعليمية.
ولمواجهة هذه الأزمة، كان الأمين العام للأمم المتحدة قد دعا إلى إطلاق حزمة تحفيزية بقيمة 500 مليار دولار سنويًا، لدعم التنمية المستدامة وتخفيف عبء الديون وتعزيز التمويل الموجه نحو الدول المحتاجة، إثر تفاقم الأزمات المناخية بالبلدان التي تواجه عدم المساواة الجندرية بسبب الفقر.
الدول المتقدمة أحسن حالًا
تضيف “دينا”: «إلا أن الدول المتقدمة تعد أحسن حالًا، من ناحية كفايتها الذاتية من المواد الغذائية، إلا أنها تغير المناخ يؤثر على القدرة التصديرية لتلك البلدان، وهذا ما يُفقدها مكانتها في سلاسل الإمداد الغذائي العالمي، ما يؤدي إلى تكبّد تكاليف إنتاج عالية للتعامل مع الاحتباس».
وعن إستراتيجيات التعامل مع الاحتباس الحراري، تقول “دينا” إن التكنولوجيا الزراعية والاستثمار فيها خير بديل للتعامل مع التغير المناخي، كأحد أفضل إستراتيجيات التكيف مع الوضع الحالي، إضافة إلى تنظيم سياسات غذائية لاستدامة الإنتاج والتوزيع والجودة، نتيجة البحث والتطوير المستمريَن، فضلًا عن خلق تعاون دولي بين مختلف البلدان لتدشين برامج تتبناها الدول النامية للتعامل مع أخطارها.
فالبلدان المتقدمة قادرة على تبني الأبحاث الوراثية للوصول إلى إمكانية إنتاج المحاصيل في المناطق مرتفعة الحرارة، إضافة إلى تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل خاصية الاستشعار، التي تعكس احتياجات التربة والأماكن الأكثر تضررًا، لخلق سبل للتكيف مع مستجدات المخاطر، حسب الباحثة في السياسات الاقتصادية.
كما تصرّح بأن الدول المتقدمة هي وحدها التي تمتلك قدرة على التعامل مع آثار التغير المناخي على الزراعة، بينما تفتقر البلدان النامية إلى نظم حديثة كالري بالتنقيط وأجهزة مراقبة الرطوبة وسبل تحسين كفاءة المياه.
أسعار الغذاء.. بين مطرقة وسندان المناخ
وحسب “حسانين”، فإن زيادة أسعار الغذاء مرتهنة بشكل كبير بنتائج تغيرات المناخ، مشيرًا إلى أن القرن الأفريقي على سبيل المثال، شهد تدمير أسراب الجراد -إثر الجفاف- للمحاصيل، ما أدى إلى زيادة أسعار الغذاء، في ظل معاناة نحو 780 مليون شخص من الجوع المزمن عالميًا في الوقت الحالي، بينما تُعد الدول النامية الأكثر تضررًا، لتفاقم الأوضاع إثر النزاعات والفقر وانعدام الأمن الغذائي.
كما أن الظواهر المناخية المتطرفة الناجمة عن ارتفاع انبعاثات الكربون العالمية تزيد من أعداد النازحين على إثرها، فحسب “حسانين” نزح -مؤخرًا- الملايين بسبب الفيضانات الكارثية في باكستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية، إضافة إلى الجفاف الممتد في أفغانستان ومدغشقر والقرن الأفريقي.
ووفق بيانات للبنك الدولي، فإن تغير المناخ قد يدفع 135 مليون شخص إضافي إلى براثن الفقر بحلول 2030، كما تواجه المناطق غير المستقرة تحديات إضافية بسبب قلة الاستثمارات التنموية، مما يؤدي إلى اتساع الفجوة الاقتصادية.
وفي تقرير للبنك الدولي، بيّن أن ارتفاع درجات حرارة الكوكب بمقدار درجتين مئويتين، يؤدي إلى زيادة الجائعين إلى المليار شخص، أما في حال ارتفاعها بمقدار 4 درجات مئوية، فقد يناهز عدد المتضررين إلى 1.8 مليار نسمة.
خفض الملوثات قصيرة الأجل
ويؤكد “كواتشي” أن خفض الملوثات المناخية قصيرة العمر لا يساعد فقط في حماية الأمن الغذائي على المدى القريب، بل يوفر أيضًا فوائد مباشرة للمزارعين الذين يعتمدون على الزراعة كمصدر أساسي للعيش، بينما يمكن تنفيذ حلول خفض الملوثات المناخية قصيرة العمر فورًا، حيث تعتمد جميعها على تقنيات متاحة، ولا تتطلب تكلفة مرتفعة.
ومن خلال الجهود العالمية المشتركة، حسب “كواتشي”، يمكن تحقيق فوائد مناخية وصحية ملموسة في فترة زمنية قصيرة، إذ يمكن، على سبيل المثال، خفض انبعاثات الميثان والكربون الأسود بنسب تناهز 40% و70% على التوالي، بحلول عام 2030، إضافة إلى القضاء شبه الكلي -بحلول 2050- على مركبات الهيدروفلوروكربون المتسببة في تسخين الغلاف الجوي.
كما تُظهر التقديرات أن خفض انبعاثات غاز الميثان، يمكن أن يقلل من خسائر المحاصيل الزراعية العالمية بنسبة قد تصل إلى 50% بحلول 2050، مما يحقق عائدًا اقتصاديًا يتراوح بين 4 و33 مليار دولار، حسب تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO).
استقرار أسعار الغذاء رهن إستراتيجيات “رشيدة”
ويبيّن “حسانين” أن تحقيق استقرار الغذاء إنما يتطلب التوازن بين مبدأ وفرة الغذاء وسهولة الحصول عليه، من خلال سياسات متكاملة تضمن إتاحة الطعام بأسعار عادلة، بينما تلعب “مدرسة التوقعات الرشيدة” دورًا في تحليل الاتجاهات المستقبلية لأثمان السلع، بما يضمن وضع إستراتيجيات مرنة لمواجهة تقلبات الأسواق العالمية.
فتعزيز المخزون الإستراتيجي للغذاء، سواء في الأجل القصير أو المتوسط أو الطويل، إنما يضمن استدامة الإمدادات وحماية المجتمعات من الصدمات الاقتصادية، حسب الباحث الاقتصادي، مستشهدًا بأن دولة الإمارات على سبيل المثال تحقق أمنها الغذائي من خلال استزراع أراضٍ في دول أخرى، لتنويع مصادرها وتقليل اعتمادها على الإنتاج المحلي وحده.
ويذكر عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي أن الاستثمار في الصناعات الغذائية الجاهزة يمثل خطوة متقدمة في تحقيق استقرار الإمدادات الغذائية، وليس الاعتماد فقط على الزراعة، وهذا بدوره يبرز أهمية تنويع مصادر دخل الدول، حتى لا يُرتهن أمنها الغذائي بالتقلبات المناخية، كما في بلدان جنوب شرق آسيا، كفيتنام وكمبوديا والفلبين، على سبيل المثال.
«الأمن الغذائي ليس بمعزل عن التوعية» يقول “حسانين”، إذ إن تحقيق الأسعار العادلة يستلزم نشر ثقافة الاستهلاك المسئول وترشيد استخدام الموارد الغذائية، كما أن الدعم الحكومي أداة فعالة في هذا الإطار، من خلال دعم المزارعين وتشجيع الابتكار في المجال وتعزيز قدرة الأسواق على التعامل مع تحديات التغير المناخي.
ومن المتوقع، ارتفاع الطلب على الغذاء بشكل حاد بحلول 2050، حسب منظمة الأغذية والزراعة (فاو).
مصر.. ما الحال!
«كأن الأرض لم تعد تعرفني.. والمياه باتت حلمًا بعيدًا».
هكذا بدأ رفيق عبد المسيح (55 عامًا) حديثه لـ”المال” عن معاناته مع تغير المناخ ونقص المياه، وهو يقف وسط أرضه في إحدى قرى ميت غمر بمحافظة الدقهلية، ويضيف: «طول عمري بزرع الرز، وده كان رزقي ورزق عيالي، لكن فجأة لقينا الحكومة بتحدد لنا أحواض معينة للزراعة، وقالوا الرز بياخد مياه كتير، وإحنا عندنا أزمة مياه، حاولت أكمّل بس الأرض بقت تنشف بسرعة مع الحر اللي زاد عن كل سنة، وبقت محتاجة ري كل يومين، والمياه مش متوفرة زي الأول، يعني زرعنا بقى مهدد من كل ناحية».
ولم يتوقف الأمر عند الصيف فقط، بل لم يعد الشتاء كما كان، فيتابع رفيق بنبرة محبطة: «قلت خلاص، الرز مش نافع، أزرع غلة (قمح) في الشتا، يمكن نعوّض اللي راح، لكن الغلة نفسها بقت ضعيفة، الحرارة بقت مش مناسبة، والنتيجة محصول قليل وتعب كتير، كإن الجو مش عاوز يساعدنا، زي ما تكون الأرض تعبت مننا».
وعن البدائل التي لجأ إليها رفيق منفردًا، يقول: «بدأت أسمع عن محاصيل جديدة زي الذرة الرفيعة وفول الصويا، وناس كتير بتقول إن الري بالتنقيط ممكن يساعدنا نوفر المياه، الحكومة بتتكلم عن مشاريع للري الحديث، بس الفلاح البسيط زيي مش معاه فلوس يغير نظامه بسهولة، إحنا محتاجين دعم حقيقي علشان نقدر نكمل».
في نهاية حديثه، يتذكر الفلاح أيامه السابقة: «كنا بننتظر المطر زمان، ودلوقتي بقينا بننتظر الفرج، لكن مش هنستسلم، إحنا عشنا عمرنا بنزرع، وهنفضل نحاول، بس لازم حد يحس بينا».
وحسب دراسة الدكتورة نيفين فرج إبراهيم، أستاذ الاقتصاد بكلية التجارة بجامعة الأزهر، تواجه مصر تحديات كبيرة أبرزها تزايد العجز الغذائي وارتفاع معدلات الفقر وتراجع نسبة الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية الأساسية، لا سيما مع تصاعد الاعتماد على الواردات الغذائية، خاصة المحاصيل الإستراتيجية، حيث أصبحت مصر واحدة من الدول الأكثر تأثرًا بتقلبات الإنتاج الزراعي، مما يشكل تهديدًا مباشرًا على أمنها الغذائي.
وتبيّن الدراسة أن التغيرات المناخية من أخطر التحديات البيئية التي يواجهها العالم، نظرًا لتأثيرها المباشر على القطاع الزراعي، ومن ثم على الأمن الغذائي، بينما تُشير التوقعات إلى أن الطلب العالمي على الغذاء سيزداد بنسبة 60% بحلول 2050، غير أن تأثيرات التغير المناخي ستختلف من دولة لأخرى، حيث ستؤدي إلى تراجع الإنتاج الزراعي في بعض المناطق، ما يزيد من مخاطر الجوع وسوء التغذية، لا سيما في الدول الأكثر هشاشة، مثل اليمن.
كما أثرت التغيرات المناخية بالفعل على إنتاجية المحاصيل الرئيسة عالميًا، حسب دراسة “نيفين”، حيث سجل إنتاج القمح انخفاضًا بنسبة 5.5%، بينما تراجعت إنتاجية الذرة بنسبة 3.8% خلال الفترة من 1980 إلى 2008، مقارنة بالمعدلات الطبيعية للإنتاج، ومن المتوقع أن تستمر هذه الظواهر مع تزايد موجات الحرارة وشح المياه وارتفاع مستوى سطح البحر، إضافة إلى انتشار الآفات الزراعية والأمراض وفقدان التنوع البيولوجي.
وعن مصر، تقول “نيفين” إن القطاع الزراعي بها من أكثر القطاعات تأثرًا بالتغيرات المناخية، ما يهدد إنتاجية الأراضي ويؤدي إلى تدهور خصوبة التربة وزيادة انتشار الآفات والأمراض، وبالتالي انخفاض إنتاجية المحاصيل، ومن بين المحاصيل الأكثر تضررًا القمح، الذي يُشكل المكون الأساسي لرغيف الخبز، وهو عنصر غذائي رئيس لمعظم المصريين، إضافة إلى كونه مصدر دخل أساسي للمزارعين.
ومع محدودية الإنتاج المحلي للقمح، تعتمد مصر بشكل كبير على الاستيراد لتغطية احتياجاتها المتزايدة، ما يجعلها أكثر عرضة لتقلبات الأسواق العالمية والتحديات الاقتصادية الناجمة عن ارتفاع أسعار الغذاء، حسب دراسة “نيفين”.
وعليه، يواجه الأمن الغذائي في مصر تحديات معقدة تتطلب إستراتيجيات متكاملة، وفق توصيات الدراسة، تشمل تعزيز الإنتاج الزراعي المحلي، والاستثمار في تقنيات الزراعة الحديثة، وتطوير سياسات تكيف مع التغيرات المناخية، للحد من تأثيراتها على المحاصيل الإستراتيجية وضمان استدامة الأمن الغذائي في البلاد.
مقترح وافٍ لمن يعي.. لمن يعي
وفي مصر، يقترح “حسانين” مشروعًا لتعزيز ثقافة المشروعات الإنتاجية، عبر تدشين الحكومة منصة للتنمية الزراعية، للاكتتاب بها من قِبل الجمهور بفائض ثرواتهم، تقوم على “المضاربة والمشاركة”، بهدف استصلاح الأراضي الصحراوية وتشغيل المهتمين بالمجال الزراعي.
فعوامل النجاح ستُخلق لتلك لمنصة -لا محالة-، حسب “حسانين”، لا سيما وأنها ستبقى تحت محاسبة حكومية خالصة تقوم على مبدأ “الإفصاح والشفافية”، إضافة إلى أن مثل تلك المشروعات قد تقضي تمامًا على ظاهرة “المستريّح” التي تفشت في السنوات الأخيرة وسط مختلف الطبقات التي ترنو إلى الثراء السريع.
كما يوضح الباحث الاقتصادي أن فكرة تلك المنصة تعد من أسس “التمويل الأخضر” أو “التمويل الجماعي” للاستثمار الزراعي ببلد نامٍ كمصر، إذ إن الدول منخفضة الدخل ليست كالمتقدمة في إستراتيجيات الاستثمار في التكنولوجيا الزراعية أو البحوث الخاصة بذلك المجال.
ووفق دراسة لـ”أوليفر وايمان“، تدعم مؤسسات تمثل أصولها أكثر من 100 تريليون دولار فرقة العمل المعنية بالإفصاحات المالية المتعلقة بالمناخ (TCFD)، إلا أن هذا يشمل فقط حفنة من الشركات العالمية، وذلك بسبب أن عواقب تغير المناخ أصبحت حاضرة بشكل متزايد، حيث الجفاف وحرائق الغابات والعواصف والفيضانات، بينما سيحتاج الاقتصاد العالمي في السنوات القادمة إلى الخضوع لتحولات هائلة من أجل تجنب كارثة مناخية بشق الأنفس في القرن الحالي.
كما أن تأثير تغير المناخ سوف يدفع إلى تعديلات هيكلية كبيرة في الاقتصاد العالمي، وسوف تؤثر مثل هذه التغييرات الجوهرية حتمًا على الميزانيات وعمليات البنوك، بينما قد تتعرض المناطق الساحلية للتأثّر المادي من جراء ارتفاع مستويات سطح البحر والفيضانات، كما أن كميات هائلة من رأس المال ستكون مطلوبة لتمويل التحول المناخي ومرونته، حسب دراسة “أوليفر وايمان”.
مشكلات عالمية طازجة.. ومقترحات قديمة
حسب بيانات منظمات الأمم المتحدة، فقد ارتفع معدل الجوع عالميًا بشكل حاد منذ 2019، واستمر عند مستويات عالية حتى 2023، إذ يعاني ما بين 713 إلى 757 مليون شخص من الجوع، أي بمعدل شخص واحد من كل 11 في العالم، وواحد من كل 5 أشخاص في إفريقيا، التي تشهد تصاعدًا مستمرًا، بينما بقت نسبة الجوع مستقرة في آسيا، مع تحسن ملحوظ في أمريكا اللاتينية.
«هناك فجوة تمويلية كبيرة تصل إلى تريليونات الدولارات، وإذا لم تُسد، ستكون لها آثار اجتماعية واقتصادية وبيئية وخيمة»، يقول التقرير الصادر عن منظمات الأغذية والزراعة (فاو) والصحة العالمية (WHO) اليونيسف والصندوق الدولي للتنمية الزراعية (IFAD) وبرنامج الأغذية العالمي (WFP).
ففي 2023 فقط، عانى نحو 2.3 مليار شخص، عالميًا، من انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد، بينما لم يتمكن حوالي 2.8 مليار شخص من تحمل كلفة نظام غذائي صحي في 2022، وهو ما يمثل أكثر من ثلث سكان العالم.
وما تزال الدول منخفضة الدخل تضم النسبة الأعلى من غير القادرين على تحمل كلفة الغذاء الصحي، مقارنة بالبلدان ذات الدخل المتوسط والمرتفع، ومن ثم، لم يتم إحراز تقدم كافٍ في خفض معدلات التقزم والهزال عند الأطفال أو خفض فقر الدم بين النساء، كما أن السمنة آخذة في التزايد عالميًا، حيث ارتفع عدد البالغين الذين يعانونها من 591 مليونًا في 2012 إلى 881 مليونًا في 2022، ومن المتوقع أن يتجاوزوا 1.2 مليار شخص بحلول 2030.
وتبقى الدول النامية أكثر تأثرًا بنقص التغذية وسوء التغذية مقارنة بالبلدان الأخرى، فالتمويل العالمي الحالي للقضاء على الجوع وسوء التغذية غير كافٍ، ولا يتم تتبعه بدقة وافية، إذ ما يزال أقل من 25% فقط من المساعدات الإنمائية الدولية موجهًا للأمن الغذائي والتغذية، رغم الحاجة الملحة لما هو أكثر من ذلك.
وشدد التقرير على ضرورة تبني إستراتيجيات تمويل مبتكرة تشمل المنح والقروض الميسرة والسندات الخضراء والاجتماعية وتمويل القطاع الخاص، وأهمية مواءمة السياسات والاستثمارات بشكل أكثر كفاءة لتحقيق هدف التنمية المستدامة (2) المتمثل في القضاء التام على الجوع بحلول 2030، مع تعزيز الشراكات بين الحكومات والقطاع الخاص وزيادة قدرة البلدان على الوصول إلى التمويل الدولي.
سياسات الحلول لا بد أن تلتفت إلى المزارع
«السياسات الحكومية لا بد أن ترمي إلى تعزيز الإنتاجية الزراعية من خلال دعم المزارعين وأسرهم، إضافة إلى زيادة الوعي بأهمية تحقيق الأمن الغذائي بمنظوره الشامل»، تقول “دينا”، ولا سيما تطبيق سياسات البحث والتطوير لاستحداث أنظمة لإدارة الموارد المائية وتطوير شبكات ري تقلل الهدر.
وحسب الباحثة في السياسات الاقتصادية، فإن سياسات تعزيز سلاسل الإمداد الغذائي لا بد أن تعتمد على تسريع النقل وتحسين طرق التخزين وتقليل الهدر ودعم أصحاب المصالح، إضافة إلى نشر ثقافة إعادة تدوير الطعام في المجتمع، مشيرة إلى تطبيق “Too Good To Go“، كمثال على عمليات تدوير الأكل الفائض في المطاعم الأوروبية للاستفادة منه وعدم هدره.
فدور الأفراد في قضية الأمن الغذائي تتمثل في الوعي بالاستهلاك وضرورة استخدام الفائض من الطعام، وفق ما ذكرته “دينا”، إضافة إلى مراعاة طرق جمع المحاصيل وأوقات حصادها، للتعامل بفعالية مع المحاصيل دون هدر، فضلًا عن تدشين تعاون مجتمعي لدعم المزارعين محليًا، كبرامج الزراعة المشتركة والمساهمة في الري لتقاسم الاستهلاك وتكاليفه.
الطاقة النظيفة.. حل مجدٍ مُجرّب
وتفصح “دينا” أن التحول إلى الكهرباء النظيفة والمصادر المتجددة مثل الطاقات الشمسية والرياح والكهرومائية يمكن أن يقلل من انبعاثات الغازات الدفيئة، وبالتالي يحد من الاحتباس الحراري عبر تقليل انبعاثات الكربون الناتج من حرق الوقود الأحفوري.
فالتحول إلى الطاقة النظيفة، عالميًا، يمكن أن يحد من 70% من الانبعاثات العالمية بحلول 2050، حسب “دينا”، إضافة إلى أن الكهرباء من المصادر النظيفة الأكثر كفاءة من الوقود الأحفوري، حيث تنتج طاقة أكبر بنفس التكلفة، ما يقلل استهلاك المزيد من الموارد الطبيعية، كما أن حرق الوقود الأحفوري يسبب تلوث الهواء والجسيمات الدقيقة التي تؤدي إلى 7 ملايين وفاة مبكرة سنويًا وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
كما أن التحول إلى الطاقة الكهربائية النظيفة يساعد في تحسين جودة الهواء وتقليل الأمراض التنفسية، كما أن السيارات الكهربائية تقلل من انبعاثات النقل، حيث يمثل هذا القطاع حوالي 23% من الانبعاثات العالمية، فالدول التي تتبنى النقل الكهربائي مثل النرويج والسويد شهدت انخفاضًا كبيرًا في التلوث الحضري، حسب ما ترويه الباحثة في السياسات الاقتصادية.
هل تكفي الحلول المطروحة؟
وفي دراسة الدكتور خالد كاظم أبو دوح، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة سوهاج، تناول فيها دور المنظمات غير الحكومية في تعزيز الأمن الغذائي لدى الأسر المحتاجة، معتمدًا على منهج المسح الاجتماعي بالعينة العشوائية، مع تطبيق مقياس تجربة انعدام الأمن الغذائي (FIES) وهو مقياس طورته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO).
وحسب دراسة أستاذ علم الاجتماع، فإن مصر تعاني مشكلات الأمن الغذائي بسبب التغيرات المناخية وتأثيرها على الإنتاج الزراعي، إضافة إلى الاعتماد على استيراد القمح من الخارج، والذي يتأثر بالنزاعات العالمية وتقلباتها، وتعطل سلاسل توريد الغذاء، ناهيك عن الفقر وارتفاع أسعار الغذاء، ما يزيد من معدلات سوء التغذية بين الفئات الأكثر احتياجًا.
ويذكر “أبو دوح” أن المنظمات غير الحكومية تلعب دورًا رئيسًا في تحسين الأمن الغذائي من خلال تنفيذ برامج لدعم المحتاجين وتوفير مساعدات غذائية مباشرة، والتركيز أن تكون برامج المساعدة لدعم المرأة المُعيلة، إضافة إلى تمكين الأسر المحتاجة اقتصاديًا عبر التدريب والدعم المالي، لا سيما وأن أغلب المشتغلين بالزراعة يعيشون في ظروف اقتصادية هشة وتعتمد على العمل غير المنتظم، إضافة إلى نسبة الأمية المرتفعة بينهم، مما يعوق فرص تحسين الدخل.
وتقترح الدراسة تعزيز برامج الدعم الغذائي في المناطق الأكثر احتياجًا، مع تحسين كفاءة المشروعات الزراعية الصغيرة لزيادة الإنتاج المحلي، إضافة إلى زيادة الاستثمارات في برامج التوعية الغذائية، لمساعدة الأسر على الاستفادة المثلى من الموارد المتاحة، فضلًا عن التوسع في استخدام تقنيات الزراعة الحديثة لمواجهة تحديات التغير المناخي، عبر تطوير شراكات أكبر بين الحكومة والمنظمات غير الحكومية لضمان استدامة المشروعات وتحقيق الأمن الغذائي على نطاق أوسع.
ويوصي الباحث في دراسته بضرورة دعم سبل عيش الأسر المحتاجة وزيادة مصادر دخلها، إضافة إلى رفع مستوى الوعي بالغذاء الصحي المناسب للموارد البيئية المتاحة، وتنمية مهارات الأسر في التعامل مع الموارد الغذائية المتاحة.