فى عالم يتغير بسرعة مذهلة، حيث تتلاعب القوى الكبرى بمصائر الشعوب وتُعاد صياغة الخرائط السياسية والاقتصادية وفق مصالح النخب، يصبح الأدب مرآة تعكس هذه التحولات بوضوح أكثر مما قد تفعله التحليلات السياسية المباشرة. نشرت قصة (أوبرا المصير، فى سبتمبر 2023)، قبل شهر من تفجر الصراعات فى غزة وسوريا وتفاقم الأوضاع الجيوسياسية فى أوكرانيا، لتجد عناصرها طريقها للواقع بطريقة لافتة، وكأن الحكاية كانت تنتظر أن تُعاد كتابتها فى التاريخ المعاصر.
يحكى النص عن قلعة المصير، حيث يتحكم “زوخ المصيري” وقوانينه المطلقة فى مصائر سكانها، متوارثًا السلطة عبر الأجيال، حتى يأتى “زوخ الحادى عشر”، فيحاول تغيير القواعد عبر إدخال الغرباء، لا لتحرير المصير، بل لإحكام قبضته عليه بوسائل جديدة أكثر دهاءً. هنا تظهر الأوبرا، ليس كمسرح للفن، بل كأداة لترويض العقول، حيث تتحول القلعة لاستعراض دائم يحكمه قائد الأوركسترا الجديد “مفجور المصيري”، فى ظل سيطرة “مدير النور”، صاحب المفتاح الذى يضيء المشهد ويطفئه وفق مصالح النخب الخفية.
يتوالى التلاعب بمصير القلعة حتى تصبح “أوبرا المصير” (فرنشايز) عالميًا، يُعاد تدويره وفق المصالح الاقتصادية، ويتم إخضاع سكانها لمنطق السوق، بينما يضيع جوهر المصير تحت إغراء الذهب الموعود وأوهام الحريات الشكلية لصالح النخبة التى تتلاعب بمصير القلعة كما تتلاعب الأنظمة المالية بمستقبل الدول عبر التحكم فى الأسواق والديون والاستثمارات وفى النهاية، يُرفع المنديل الأبيض، إيذانًا باستسلام الجميع، بينما تواصل النخب إعادة إنتاج المسرحية نفسها تحت عناوين جديدة، وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن بأقنعة مختلفة. لتقدم القصة استخدام القوة العسكرية لتحديد المصير دون الرجوع إلى إرادة الشعوب، التلاعب الإعلامى بالأحداث وتوجيه الرأى العام عبر “الأوبرا” (رمز الدعاية السياسية)، الدور الخفى للنخب المالية والدول الكبرى فى رسم مسارات النزاعات، “زوخ المصيري” يمثل الزعامات التى تدّعى حماية الهوية لكن حقيقتها تبيع المصير لمصالح خارجية، وهو ما نراه فى الأوضاع السياسية المعقدة فى الشرق الأوسط وأوكرانيا واختراق أوروبا العجوز، فكرة أن “مفجور المصيري” لم يمنح العازفين الذهب، بل باعهم وهم النجاح، تتطابق مع السياسات النيوليبرالية الحديثة التى تعد الجميع بالمكاسب، ولكن لا يصل إليها سوى القلة!
هذا النص ليس مجرد قصة، بل استشراف لما يحدث اليوم، حيث يُباع المصير تحت مسميات مختلفة، ويُعاد إنتاج الاستعمار بواجهات جديدة، ليبقى السؤال: هل نحن المتفرجون فى هذه الأوبرا؟ أم أننا جزء من العرض دون أن ندرك؟
((لا أحد يعرف بداية تاريخ قبيلة المصير أو أسطورة كبيرها “زوخ المصيري” مع بناء قلعتهم الخالدة فى أرض بئر طويل؟ وهى وإن عُرفت لقبائل البئر بقلعة المصير، كانت مكونة من “بيت المصير” وحزمة خماسية من القلاع الأخرى أقل حجما وسكانا، ولكنهم عُرفوا للجبال والصحراء وقبائل المنطقة بقلعة المصير! هل لأن “زوخ المصيري” اكتشف موقعها الفريد، أو كما قيل تنام على عروق ذهب، أو لأن رجالها نحتوا بأيديهم مصيرهم فى البقاء، أو لأن كل حروبها مع باقى مربعات ومثلثات ومخمسات بئر طويل وحلايب كانت محسومة النهاية، أو لأن “زوخ المصيري” سن المصير كقانون للقلعة وبطونها! لا أحد يعرف، سوى قرون المصير تُحفر على جدرانها جيلا بعد جيل، واستقرار اسم “زوخ المصيري” لكل من يقف على سورها معلنا بداية قرن جديد!
على مدار الزمان وحدود المكان، اكتفى “زوخ المصيري” وخلفاؤه بعده، بموقع القلعة وبطونها فى فرض تميزهم على بئر طويل، حتى كان زوخ الحادى عشر الذى حاول تجاوز تميز الموقع، باستهداف البشر! فاختفى عن القلعة عاما، وظهر بمجموعة غريبة من البشر بحقائب كثيرة وغريبة الشكل؟ وضرب خمارا حول أسوار القلعة شهرين، لتشهد مربعات ومثلثات ومخمسات بئر طويل وحلايب ذات صباح، رفع الخمار عن عبارة حجرية (أوبرا المصير) تتعرش بوابة القلعة؟! انتشر الخبر بسرعة البرق فى الجبال والكثبان والنفوس.. قلعة المصير أصبحت أوبرا، والأوبرا أصبحت المصير!
اختفى “زوخ المصيرى الحادى عشر” عن المشهد، وظهر للوجود “مفجور المصيري” قائد أوركسترا المصير من ٧٥ عازفا موعودين بالذهب، جلبهم الحادى عشر فى غيبة التكوين! فطالما المصير هو القانون فلا قانون إلا المصير! هكذا أعلنها مفجور المصيرى فى كل حفلاته، التى استقطبت كل هوام بئر طويل وما حولها، ليسلّم زوار وعاشقى الأوبرا مصيرهم لقانون مفجور، فى أوبرا بلا قانون!
استمرأت قبيلة المصير حفلات الأوبرا، وخلق مفجور من العازفين كتيبة إلهام أو إعدام طموح وأحلام الجمهور، وأصبح مدير النور (وهو رجل غامض بجينيريتور جبار، كان فى ركب “زوخ المصيرى الحادى عشر”) هو المسيطر على بداية ونهاية المصير، فتبدأ العروض مع إضاءته وتختم بغلقها، أو حنقه من مفجور لاختلاف القسمة! ورغم ذلك لم ينل العازفون الذهب، أو يفُق الجمهور من وهم الأوبرا أو استعادوا مصيرهم! فالمهم لمجلس المصايرة بقاء أوبرا المصير فى قلعة بلا قانون إلا المصير ذاته!
على مدار القرون التالية، مُنح “مفجور المصيري” لقب زوخ! وسلم المجلس لعصبه بإدارة أوبرا المصير، حتى كانت تقسيمة وفصل “مطراق المصيري” لملكية القلعة والأوبرا، عن إدارة أحفاد الـ75 عازفًا ووعد الذهب، عن جمهور الأوبرا! فشرر الصراع بين طبقاتهم سينير باقى المصير، ليحتفظ بالقاعة والذهب والعزف وأحلام ودموع الجمهور! وعلى غرار ثورة “زوخ المصيرى الحادى عشر”، اختفى مطراق فجرا وعاد ليلا محمولا ومحفوفا بسيارات وطائرات وغواصات تشق الرمال وأعلام لا تدل على أحد! “فأوبرا المصير” أصبحت (فرنشايز)، وهؤلاء أقنعوا مطراق بحتمية دراسة التاريخ والقيادة وإشعال أو إعدام طموح وأحلام الجمهور!
تفنن عصب “مفجور المصيري” فى تصحير الأوبرا! ولتعويض وهم الذهب قامر العازفون بمصير أحفادهم مكتوفين بصدى رنينه فى مقطوعات نشاز، أقحموها فى أذن الزوار كدليل التجديد! فمعجزة فرنشايز أوبرا المصير، تحتم بقاء “زوخ المصيري”، وتطوير الحادى عشر، وشراء ذمة مدير النور الذى تأكد تخابره مع خطة عُصبة التجار لوأد مصير بئر طويل!
لم يعرف أحد تحديدا متى ظهرت عروض تقسيم قلعة المصير أو قرون حوائطها، أو رهن عروق ذهبها التى لم تظهر أبدا؟ كما لم يعرف أحد مصير اجتماع مدير النور مع زوخ المصيرى الجديد، ومايسترو الجوقة وقائد ألتراس الجمهور؟ وإن ذاع أن تعديلات وشيكة قادمة للمصير! ورغم أن “المصير هو القانون فلا قانون إلا المصير”، إلا أن مطالبى الفرنشايز حتموا تقنين المصير! (فى بئر طويل لا جدوى لحق تقرير المصير، فتقنينه أيسر وأبسط، ويمكنك الاستعانة بالقانون الإنجليزى المطبق فى المراكز المالية الدولية، لتكوّن ألحانك وعروضك عالمية)!؟؟
أغلق مدير النور مفتاحه، ليتخبط مطالبو الفرنشايز فى أكتاف ألتراس الجمهور، ويرفع مايسترو الجوقة منديله الأبيض معلنا الاستسلام (فلا ذهب ولا ألحان أو جمهور يحترف التصفيق مع التغييب، ولا ضمان للعروض فى بلاد الفرنشايز)!
وللحظات انسحب المصايرة لداخلهم، لمراجعة نبوءة زوخ المصيرى على لوح المصير (للقلعة باب واحد فلا تشركوا به – للقلعة مصير واحد فلا تشاركوا فيه – للقلعة تاريخ واحد فلا تتآمروا عليه – للقلعة حلم واحد فلا تقتلوه – للقلعة عروق ذهب فلا تموتوا إلا وهى فى أيديكم – للقلعة أحجار ولود فلا تمنحوها لعقماء – للقلعة نهر واحد فلا تبيعوه بالأمان). هكذا قال زوخ!
وهكذا فتح مدير النور مفتاحه، ليُفاجأ الجميع بحوائط الأوبرا تتقيأ تاريخها إعلانا جديدا.. (اتفرج يا سلام الليلة وكل ليلة. العرض الجديد للمصير. لحن لم يكتمل ورقص لن ينتهى. ولأول مرة تمبولا على صكوك رهن الذهب، ومناقصة رقمنة تاريخ الجدران. سارع واحجز لحنك، فالعرض لن يبدأ أبدا)).
* محامى وكاتب مصرى