خواطر مواطن مهموم 283

على الورق يبدو هذا ذكيًّا ودعوة إلى محاكاة انفتاح نيكسون وكيسنجر على الصين فى السبعينيات

خواطر مواطن مهموم 283
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:39 ص, الأحد, 2 مارس 25

عن السياسة الخارجية للرئيس ترامب

هذه السياسة الخارجية لغز وتحدٍّ؛ لغز لأنه لا أحد يستطيع أن يحدد بالضبط أهدافها، وتحدٍّ لأنه لا أحد يحب أن يرى انتصار الابتزاز والبلطجة وخيانة الحلفاء. هذه السياسة تحدٍّ لى بصفتى مواطنًا لأنها تهدد مصالح الوطن، وهى تحدٍّ لى بصفتى محللًا لأن مهنتى تتطلب لجْم تحيزاتى… وكلها تدفعنى إلى محاولة إثبات أن هذه السياسة شريرة وتافهة ومحكوم عليها بالفشل، وللأسف فى العلاقات الدولية وفى الصراعات لا ينتصر الحق دائمًا، لا هو ولا الحضارة ولا العقل ولا القوة.

نبدأ بمحاولة تحديد أهدافها المحتملة. منذ 15 سنة تقول أصوات محسوبة على اليمين المحافظ واليمين المتطرف الغربيين إن الصراع الرئيس هو بين الولايات المتحدة والصين، وأن انحياز روسيا للصين يُعقّد موقف الولايات المتحدة، وأن الغرب عليه التقدم بتنازلات لروسيا تُقنعها بالتخلى عن الصين والتحالف مع الغرب.

على الورق يبدو هذا ذكيًّا ودعوة إلى محاكاة انفتاح نيكسون وكيسنجر على الصين فى السبعينيات من القرن الماضى، والتنسيق معها ضد الاتحاد السوفيتى، لكنه قياسٌ مع الفارق. أهم ما تغيَّر هو عمق العلاقات بين روسيا (أو الاتحاد السوفيتي) والصين. علاقات الصين بالاتحاد السوفيتى فى السبعينيات كانت سيئة ولم تخسر الكثير عندما ابتعدت عنه أكثر. اليوم، روسيا تعتمد اعتمادًا يكاد يكون كليًّا على الصين والهند وإيران وكوريا الشمالية، فك الارتباط سيكون أصعب بكثير، وقد يكون مستحيلًا. من ناحية أخرى، نيكسون وكيسنجر لم يقدما أحد حلفائهما قربانًا لبكين؛ كونهما عجزا عن الدفاع عن جنوب فيتنام لا يمتُّ بصلةٍ للتقارب مع بكين، وطبعًا لم يعتنق أيٌّ منها الماركسية اللينينية كما يفهمها الرئيس ماو، بينما الرئيس ترامب يتخلى عمدًا عن أوكرانيا، وربما عن أوروبا الغربية، ويتبنى كليةً الرواية الروسية.

إلى جانب هذا، فلنضع أنفسنا مكان الرئيس بوتين، هل يتخلى عن صديق عملاق سياسته تتسم بقدر كبير من الاستمرارية والثبات والتعقل، للتحالف مع دولة تُغيّر، كل سنتين، توجهاتها، وأثبتت مرارًا أنها حليف لا يُعتمد عليه؟ هل يستطيع أن يضمن استمرار الجمهوريين فى الحكم؟ هل يستطيع أن يضمن أن الرئيس ترامب لن ينقلب فجأةً عليه؟ السلوك الحكيم أن يحصل على التنازلات المجانية التى يقدمها الرئيس ترامب، ويستمر فى التحالف مع الصين وفى إرهاق الغرب بوسائل رخيصة، بكل معانى الكلمة… لا تُكلف الكثير وتُخالف العُرف الدولى. باختصار – وقد أكون مخطئًا – أستبعد تمامًا إمكان النجاح فى إبعاد روسيا عن الصين.

قد تكون حسابات الرئيس ترامب أكثر تعقيدًا، قد يراهن على رفع العقوبات عن روسيا لتمكينها من تصدير الغاز بسعر السوق، ومن المعروف أن روسيا تبيعه، الآن، بسعر أرخص بكثير لكل من الصين والهند، وأن الصين تفرض على موسكو شروطًا قاسية فى هذا المضمار، رفع العقوبات يُقوى مركز موسكو فى المفاوضات حول تحديد أسعار الطاقة مع الصين، وسيؤدى غالبًا إلى رفع هذا السعر، ومن ثم إلى تحميل أعباء جديدة على الصين. على فرض أن كل هذا ممكن، تبقى مشكلة… الأغلب أن تقوية مالية روسيا ستدعم مواصلة روسيا تقوية قواتها المسلّحة، مما يتيح لها استمرار السعى إلى استرداد جزء مما فقدته سنة 1991، إما بالغزو أو بالتهديد به. يقول المدافعون عن الرئيس ترامب إن الرئيس الروسى لن يعود إلى الحرب، لكن هذا الكلام رهانٌ بالغ الخطورة، الكل راهن على أن الرئيس صدام لن يخوض حربًا جديدة بعد حربه الطويلة مع إيران، والكل خسر رهانه – الخروج من اقتصاد الحرب، والعودة إلى اقتصاد طبيعى، أمران بالغا الصعوبة.

هناك تفسيرات أخرى لسياسات الإدارة الجديدة فى واشنطن، منها الغباء والجهل، لكننى أستبعد هذا، هناك من يقول إن هذه الإدارة تقلل من أهمية القضايا الإستراتيجية والعسكرية، وتضع الاقتصاد؛ وتحديدًا البحث عن المعادن النادرة، على رأس أولوياتها.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية