هل العالم بصدد فك حجر رشيد رقمى يكشف خطط السيطرة على المستقبل، كما ساعد شامبليون فرنسا والمعرفة الأوروبية للسيطرة على العالم القديم؟ ومن هو حذاء شامبليون القرن 21؟ تترجم نسخة تمثال شامبليون 1875 للنحات الفرنسى أوجست بارتولدى (ممثلا شامبليون مستكمل اكتشاف الهيروغليفية، يدعس بحذائه رأس الملك المصرى القديم)، رمزية عميقة جدا لأقدم أدوات الاستعمار الأوروبى بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بهيمنة الاكتشافات الأثرية والثقافية على المنطقة منذ رحلات ماركو بولو 1324-1254، حتى مرحلة الحملة الفرنسية على مصر 1798، كبداية حقيقية للتنقيب العلمى المنظم، وواضعة الأساس للبعثات الأثرية العالمية الحديثة. لتتجاوز أهداف هذه الدول العلم، لتعزيز السيطرة الثقافية والسياسية والاقتصادية على البلاد المُنقب فيها، وتُخرج فكرة شامبليون كرمزية للفوقية الفرنسية فى علم الآثار خصوصا والمعرفة الأوروبية عموما للسيطرة على العالم القديم، فيترجمها النحات بارتولدى بدعس العلم والمعرفة لغموض التاريخ والعلم القديم، برمزية رأس ملك مصر القديمة، حاضرة ورمز العالم القديم! ليكون التمثال منذ 1875 رمزا خالدا لإستراتيجيات واستعمار وقيادة العالم القديم والحديث بالتفوق العلمى والثقافى!
فإذا كانت أوروبا هى القائدة الوحيدة فى العلوم والثقافة حتى عام 1900 (بما برر لها الحذاء الشامبليونى على العالم القديم وحاضره حتى ذلك التاريخ)، فقد بدأت أمريكا بناء قوتها العلمية من 1930-1900، ومع الحرب العالمية الثانية 1930 – 1945 نُزعت القيادة من أوروبا ونقلتها لأمريكا بسبب هجرة العلماء/ ألبرت أينشتاين (النظرية النسبية)، إنريكو فيرمى (الفيزياء النووية)، إدوارد تيلر (القنبلة الهيدروجينية)، جون فون نيومان (الرياضيات والحوسبة)، لتكون النتيجة بناء مشروع مانهاتن
1942-1945 المؤدى لتطوير القنبلة الذرية، وتتأكد به الهيمنة العلمية الأمريكية، لتبدأ فى ارتداء الحذاء الشامبليونى الجديد مع الحرب الباردة -1945 1991، التى سمحت لها بدعم مطلق للبحث العلمى والتكنولوجي! فأسست وكالة ناسا للفضاء، ووكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة (DARPA) المساعدة لتطوير الإنترنت لاحقًا، تمويل جامعات MIT، ستانفورد، هارفارد، وبرينستون لتتحول لمراكز بحثية عالمية، وتصبح اللغة الإنجليزية لغة العلم والتكنولوجيا، بما زاد من تأثير أمريكا الثقافي، واكتمل لها نقل القيادة العلمية والثقافية من أوروبا!
واقعيا؛ تجاوزت قيمة فك حجر رشيد للهيروغليفية، لفتح الباب لفهم اللغات القديمة الأخرى، وتأسيس علم الخطوط القديمة (Paleography)، وأصبح جزءًا من الصراع الثقافى بين مصر والغرب، والأخطر دلالة تمثال مكتشفه الرابض بالسوربون فوق رأس رمز المُلك! فهل يمكن اعتبار التقنيات الحديثة (الذكاء الاصطناعي، البلوكتشين، البيانات الضخمة، الإعلام الجديد) هو حجر رشيد الرقمى للسيطرة على المستقبل؟ وهل إيلون ماسك / مارك زوكربيرج / سام ألتمان، وغيرهم هم “بارتولدى الجديد” كنحاتين البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعى والفضاء؟ فإذا كان بارتولدى صنع تمثال شامبليون ليجسد السيطرة على التاريخ، فاليوم تسيطر شركات التكنولوجيا على سردية المستقبل من خلال التحكم فى المعرفة وفرض سياسات مالية على الدول النامية! فماسك يهيمن على الفضاء والاتصالات، زوكربيرج يخلق عوالم افتراضية تتحكم فى الوعى الجماعي، وألتمان يقود الذكاء الاصطناعى كأداة لصياغة الفكر الحديث والمعرفة البشرية! وكما منح شامبليون أوروبا مفتاح الحضارة المصرية، فالذكاء الاصطناعى يمنح الشركات الكبرى والمخابرات أدوات عميقة لفهم سلوك الأفراد والتلاعب بهم، لتنطلق الاستثمارات التكنولوجية الكبرى فى المنطقة هادفة “لتفكيك رموز” الأسواق والسيطرة على عقول الشعوب عبر التكنولوجيا، بما يمنحها قوة غير مسبوقة لتشكل استعمارا جديدا، ويحول هذه الدول لمصدر للبيانات الخام، مثلما كان الاستعمار القديم يسعى لتحويلها لمصدر للذهب والآثار!
وإذا كان نابليون غزا مصر عسكريًا، وشامبليون فك رموزها لتمكين الهيمنة الثقافية، فإن السيد/ ترامب بدعم التقنية والعلم الأمريكى وتحكم وادى السيلكون فى سياسات المعلومات حول العالم، يستخدم القوة الاقتصادية والسياسية والتقنية لمحاولة إعادة تشكيل خريطة النفوذ الجيوسياسى لصالح الحذاء الشامبليونى الأمريكى الجديد؟ غزة: خططه لترسيخ الاحتلال وإعادة رسم جيوسياسة المنطقة وميزان القوة بزعم الاقتصاد/ المكسيك: بناء الجدار العازل لعزل أمريكا عن الجنوب/ كولومبيا: التدخل السياسى عبر العقوبات والسياسات الاقتصادية/ جرينلاند: محاولاته لامتلاك أصول إستراتيجية عالمية بلا سند! التطورات الأخيرة جعلت العالم يشهد أمثلة حديثة على الحذاء الشامبليونى الجديد؟ ستارلينك بأوكرانيا، يتحكم ماسك فى الإنترنت كأداة حرب، لتستفيد أمريكا بشطرنج ثلاثى من الأطراف المعنية، ثم تتحكم فى الذكاء الاصطناعى بفرض قيود على الصين فى التكنولوجيا المتقدمة، وتضغط على الدول النامية بالديون الاقتصادية والتكنولوجيا بدلاً من الجيوش.
وإذا كان ماسك، زوكربيرج، وألتمان، وجيف بيزوس، وبيل جيتس يمثلون بارتولدى العصر الرقمي، وترامب يمثل القوة الحذائية فارضة الهيمنة، فإن “رأس الفرعون” لم تعد مجرد مصر، بل الخريطة الجديدة للشرق الأوسط كرمز للنظام العالمى الجديد! فالسيد/ ترامب بالتحالف مع البارتولديين الجدد ليس مجرد زعيم سياسي! بل هو النموذج الجديد “لرمزية سيطرة الحذاء الشامبليوني” الفارض السيطرة بالقوة الاقتصادية، الرقمية، والعسكرية! فالشرق الأوسط لم يعد منطقة نفوذ تقليدية، بل ساحة تجارب للذكاء الاصطناعي، والطاقة الجديدة، والحروب السيبرانية (من خلال إعادة تشكيل التحالفات الجيوسياسية، بالتطبيع، تحالفات جديدة بين إسرائيل ودول الخليج، ومحاولات دمج المنطقة فى شبكات النفوذ الغربية)، وهو ما يسعى له ماسك وزوكربيرج لدمج المنطقة فى الاقتصاد الرقمى الجديد، لتكون الثروات والطاقة تحت سيطرة النظم الغربية، كما كان النفط تحت سيطرة الشركات الكبرى فى القرن العشرين، لتتحول المنطقة بأكملها لرأس الفرعون تحت الحذاء الشامبليونى الأمريكى الجديد!
ورغم الشامبليونية الأمريكية الجديدة، فإن الصين لها (بارتولديوها) الخاصون أيضا، وتنازع الحذاء الأمريكى الجديد تقنيا واقتصاديا، من خلال مشروعى (DeepSea) للهيمنة على التقنية البحرية والاتصالات العميقة كمضاد لستارلينك (الذى رد عليه ماسك بنموذج AI أذكى من البشر بـ١٠ آلاف مرة)، ومبادرة الحزام والطريق لإعادة رسم الخريطة الاقتصادية العالمية بأظافر التنين الصينى القديم! فهل ما تفعله الصين يمكن وصفه بـ(شامبليون المضاد)؟ أم سيكون هناك شخص أو جهة تحلل وتفضح الطرق التى تستخدمها الشركات والحكومات للسيطرة على العالم عبر البيانات والخوارزميات – مثل إدوارد سنودن؟ وكيف يتم التحكم فى الشعوب من خلال وسائل الإعلام والاقتصاد الرقمى والذكاء الاصطناعى – مثل يوفال نوح هراري، المحذر من خطورة الاستعمار الرقمي؟ أم هل سيكون هناك قائد سياسى يؤمن وقادر على خلق تحالفات عالمية لمواجهة الاستعمار التكنولوجي، وحق الدول النامية لتملك سيادتها الرقمية، وألا تكون مجرد أسواق لبيانات الشركات الغربية والصينية؟ هل يتطور الوعى الجمعى العالمى بتكرار تقني، لنموذج مماثل لمجموعة لاهاى 2025 (بإنهاء الاحتلال وحق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم)، بما يسمح بسن تشريعات دولية لحماية البيانات وتطوير منصات رقمية محلية مستقلة؟
باستشرافنا لأبعاد قضية شامبليون الحديث حتى 2050، قد نصادف (١) انتصار الهيمنة الرقمية وتوحش سيطرة الشركات الكبرى على البيانات والمعلومات، وتحكم الذكاء الاصطناعى فى القرارات الاقتصادية والسياسية، لتتحول الدول التابعة/ النامية لمستهلكين رقميين فقط، وتتفكك بتخلفها عن التحولات التكنولوجية (2) أو ظهور شامبليون المضاد وتفكيك السيطرة الرقمية، بدول مثل الصين، البرازيل، جنوب أفريقيا، دول الشرق الأوسط، الهند بتطويرهم AI مستقل، وتقنيات لا مركزية كالبلوك.تشين لمواجهة الاستعمار الرقمي، وفرض قيود على شركات التكنولوجيا الكبرى لوقف مخاطر الاحتكار التقنى (3) أو حرب باردة تكنولوجية بين أمريكا والصين للسيطرة على الذكاء الاصطناعى والاقتصاد الرقمي، قد تتطور لتحالفات إقليمية تهدف لحماية الأمن السيبرانى والاقتصاد الرقمى للدول النامية، (ما لم يؤدِ ذلك لنشوب “حروب سيبرانية” بين القوى العظمى لتأمين النفوذ التكنولوجى)!
المعركة الدائرة والقادمة ستتجاوز الأرض للفضاء، والإنسان لمقدراته! ليكون السؤال الدموي: من سيفك رموز الهيمنة، ومن سيبقى تحت الحذاء الرقمي؟ ومتى وكيف تنتبه مصر لحتمية استعادة كرامتها من تحت الحذاء، كأول شامبليون مضاد حقيقى ذى صفة ومصلحة لصحوة العالم؟
* محامى وكاتب مصرى