لستُ خبيرًا فى الشأن الأمريكي، ومن ثم لا أستطيع، ولا أريد، أن أخوض فى السياسات الداخلية للرئيس بايدن وإدارته. ولا أستطيع الإدلاء بدلوى فى الجدل الجارى ببعض الأوساط، هل خسارة السيدة كامالا هاريس معركة الرئاسة تعود إلى شخصها، أم إلى تأخر انسحاب الرئيس بايدن من السباق، أم إلى الخيارات السياسية والثقافية للإدارة الديمقراطية، أم إلى سياساته الخارجية، أم إلى مزيج من كل هذا. ما يمكن قوله أن فوز الرئيس ترامب جاء واضحًا، لكنه ليس كاسحًا، على عكس ما يدَّعيه، وأن ميل الديمقراطيين إلى تحميل الرئيس ترامب وحده دون غيره مسئولية الاستقطاب السياسى والثقافى الحادّ وغير المسبوق الذى يهدد تماسك الجبهة الداخلية الأمريكية “كلام فاضي”، وقد أذهبُ مذهب الديمقراطيين فى اعتبار الرئيس الجديد شخصًا سيئًا جدًّا، وخطرًا على الديمقراطية، وقد لا أذهبُ هذا المذهب، لكننى أُوجه لهم السؤال: كيف انتصر هذا السيئ جدًّا – وفقًا لكم – نصرًا مبينًا عليكم وأنتم تدَّعون أنكم معسكر الخير الجليّ الواضح؟!
ولكننى متابع كئود للمشهد الدولى – مع طبعًا نقاط ضعف متعددة، لا أعرف أى شيء عن أمريكا اللاتينية، ولا أعرف الكثير عن جنوب شرق وجنوب غرب أفريقيا، ولا عن جنوب شرق آسيا، ولن أفاجئ أحدًا إن قلت إن حصاد إدارة الرئيس بايدن فى السياسة الخارجية أقل من المتوسط، بصفة عامة، وفى بعض الملفات كارثيّ.
وهنا أيضًا السؤال يفرض نفسه: هل سبب الأداء السيئ يعود إلى أمور وعوامل تخص الرئيس بايدن ومستشاره للأمن القومى جيك سوليفان وحدهما دون غيرهما، أم هل هو نتيجة طبيعية لتوجهات وخيارات جماعية لنُخب الحزب الديمقراطي؟ هل تكمن المشكلة فى عادات إمبراطورية وإمبريالية؟ هل الأداء السيئ أمر حتمى فى ظل تعقيدات المشهد الدولى الحالى وفى ظل التعارض المتزايد بين الاعتبارات المتناقضة؟ أدركُ أن حكم التاريخ والمؤرخين سيكون حتمًا مختلفًا عن حكم شاهد مِثلي، قد يكون أكثر قسوة، وقد يكون أكثر رأفة، لكن لا بأس من الاجتهاد.
كل المعلقين يشيرون إلى تقدم الرئيس بايدن فى السن، وإلى تأثير حالته الصحية والذهنية التى تدهورت بوضوح على أدائه، وجاء هذا التدهور فى توقيت سيئ مع اشتعال الأزمات والحروب آخِر ثلاث سنوات، وهو كلام وجيه وسخيف فى آن واحد. ما لفت نظرى فى هذا الصدد رأيٌ قرأته فى مجلة بريطانية، ومفاده أن الرئيس بايدن ظلَّ أسير قناعات تشكلت فى وجدانه خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ولم يدرك أن العالم تغيَّر، وإنْ أدرك – أنا شخصيًّا متأكد أنه أدرك – عجز عن تغيير مقاربته للأمور.
وتقول صاحبة الرأى إن الرئيس الأمريكى لم يفهم أن روسيا، اليوم، ليست الاتحاد السوفييتي، وأن الرئيس بايدن بنى سياسته تجاهها على أسس كانت صالحة فى الحرب الباردة، ويفهم، بمفهوم المخالفة، أنها تقصد أنها لم تعد صالحة اليوم، ولم أفهم من كلامها إن كانت ترى أن روسيا أضعف بكثير من الاتحاد السوفييتي، أم تُقدِّر أن فارق القوة بين روسيا والولايات المتحدة بات أكبر. ومن ناحية أخرى، تقول إن الرئيس بايدن لم يفهم أن إسرائيل، اليوم، ليست إسرائيل الستينيات والسبعينيات، إسرائيل نتنياهو واليمين المتطرف ليست إسرائيل جولدا مائير ورابين.
كل هذا الكلام يستحق وقفة، من ناحية لتحديد مدى صحة الحديث عن اختلاف إسرائيل اليوم وروسيا اليوم عن الاتحاد السوفييتى وإسرائيل السبعينيات، ومن ناحية أخرى هل هذا الكلام كافٍ لتفسير وتقييم قرارات وأخطاء الرئيس بايدن.
أقولها، وأنا شديد الغضب من إدارة الرئيس وفريقه للملفات التى تهمُّنى أنا المواطن والخبير، راجيًا ألا يدفعنى هذا الغضب إلى تبسيط مُخلّ للأمور، وإلى تجاهل حقيقة أن ما أُفضله قد لا يكون ممكنًا، وأنه لا يمكن الاستهانة بتأثير المشهد الداخلى على القرارات، ولا قبول الاحتجاج الدائم به.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية