خواطر مواطن مهموم 277

توفيق اكليمندوس

9:06 ص, الأحد, 19 يناير 25

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:06 ص, الأحد, 19 يناير 25

عن عبد الناصر وعن مصر

أمضيت أكثر من ربع قرن فى دراسة سيرة جمال عبد الناصر ومرحلته وموقعهما فى المسار التاريخى المصرى، والعربى والإقليمى، وكم أتمنى العودة إلى هذه الدراسة، لأطلع على ما صدر مؤخرا من أبحاث مصرية وعربية وعالمية فى هذا الشأن، ولأراجع ما قلته وكتبته على ضوء ما تعلمته بعد 2010، عن تاريخ الصراع الدولى وعن تطور المجتمع المصرى، لدوافع منها استيائى من تناولنا الجماعى لسيرته، ولسيرة رفاقه بصفة عامة والسادات بصفة خاصة، وللمرحلة التى قادوا فيها البلاد، وهذا التناول يكشفنا ويفضحنا نحن وتصوراتنا وفهمنا وعدم فهمنا لبلادنا ولمحيطها وللعالم، ولا يعلمنا الكثير عن هذا الجيل ودوره فى تاريخ بلادنا.

بدايةً، أقر أننى استفدت جدا من مؤلفات الأستاذ محمد حسنين هيكل، وأراها مدخلا ضروريا لفهم ناصر، وهى مفتاح ضرورى، لا رؤية ممكنة دونها، ولكنها أيضا قفل وحاجب، بها معالم تنير الطريق وأخرى تدفعنا فى اتجاهات لا تفيد وقد تضلل. ولكى أعطى مثالا لن يزعج الناصريين، أجاد هيكل استرداد أجواء المرحلة، ونقل إلينا بكفاءة جاذبية شخصية ناصر، ونضاله البطولى، وشموخه، ولكن «ناصر» كان أيضا مفكرا إستراتيجيا من الطراز الأول، مطلع على الفكر الإستراتيجى العالمى فاهما له. وهذا الجانب لا يظهر كثيرا فى أعمال هيكل.

عبد الناصر شخصية بالغة الثراء، حاول دائما الموازنة بين الحسابات الدقيقة ومقتضيات الزعامة الكاريزمية، بين طموحاته لمصر والمنطقة وحدود قدرات مصر، والمشكلة أن الهوّة كبيرة بين الطموحات والقدرات، رغم أهمية الجهود التنموية، وتم أحيانا تجسير تلك الهوّة بالمهارة السياسية والإستراتيجية والدبلوماسية، وتم فى أحيان أخرى -ليست قليلة- سلك سلوك لا يمكن وصفه إلا بأنه مقامرة، ومصر والدول العربية دفعن ثمنا باهظا لمقامرة أدت إلى كارثة. السؤال الذى لم يفرض نفسه هو… هل كانت هذه المقامرة ضرورية أمْلتها الأوضاع فى المنطقة وتداعيات عدد من الأزمات؟ أم كانت ضرورية لو أراد النظام تفادى تراجع مهين يعرض خطابه ورؤيته للعالم وآليات عمله لأزمة كبري؟ أم لم تكن ضرورية بل هى خطأ يعود إلى قرار متهور تسبب فى تداعيات كارثية الواحدة تلو الأخرى؟ فضلنا كلنا إما التفسير الأخير.. قرار لا يفسر إلا بجنون العظمة أو بالغباء… وإما تفسيرًا بالمؤامرة الشريرة… وإما تفسيرًا من عينة “القيادة العسكرية خانت القيادة السياسية ولم تكن على مستوى المسؤولية”.

تشترك كل هذه التفسيرات وغيرها… فى تفادى السؤال الرئيس الذى ما زال مطروحا إلى يومنا هذا… هل الطموحات السياسية للكثيرين منا واقعية؟ أم أسيرة أوهام عاجزة عن قراءة الواقع والتعامل معه؟ هل نستطيع تحقيق بعض آمال الجماهير دون مقامرة خطرة ستؤدى إلى كارثة؟ على عكس ما يُفهم من كلامى لا أحب الواقعية التى تؤدى إلى انهزامية، رفض التهور لا يعنى المطالبة بالانبطاح والتغنى به. نعم لا أحب عددا كبيرا من أوهامنا، ولا أحب ميل الكثيرين منا إلى رفض تحديد أولويات وإلى التصور أنه يمكن الجمع بين أمور لا تجتمع، ولكن الأحلام ضرورية، والعمل على تحقيقها مطلوب. وعلينا أن نتجاوز إرث كابوس ٦٧، ورفض الثنائية الراسخة فى أذهان الكثيرين من جيلى، إما تهور وإما جبن. تحقيق بعض الآمال … لا يقتضى قبول الواقع والاستسلام له، ولكنه يقتضى فهمه والعمل على تغييره وفقا لمقاربات عقلانية.

كارثة ٦٧ أنستنا أن هذا المنهج العلمى كان منهج عبد الناصر، وإن حاد عنه فى عدد من الحالات ما زلنا ندفع ثمنها، نستطيع طبعا أن نقول إن عبد الناصر أخطأ فى اختياره للمذاهب والنظريات التى اعتمد عليها، كما نستطيع أن ندافع عنها إما بالقول إنها صالحة وإما بالقول إنها كانت تناسب ظروفنا وظروف المرحلة. وهناك من رأى أن النظرية كانت سليمة ومناسبة ولكن البيروقراطية خانت الفكر الناصرى، أرى فى الطرح الأخير تبسيطا مخلا.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية