من جان دارك إلى شامبليون: قراءة مصرية جديدة لمحاربة الكرامة بالفن!

محمد بكري

8:32 ص, الأحد, 12 يناير 25

محمد بكري

محمد بكري

8:32 ص, الأحد, 12 يناير 25

لطالما شكلت الكرامة الوطنية محورًا أساسيًا فى تشكيل هوية الدول وحماية إرثها وعزة شعبها. وفرنسا، صاحبة تاريخ نضالى طويل لتصحيح مظالمها التاريخية. ولكن، هل تقف فرنسا اليوم على أرض صلبة عندما يتعلق الأمر بإنصافها لكرامة الشعوب الأخرى، مثل موقف مصر فى قضيتى إقصاء تمثال شامبليون ورفض عودة تمثال دليسبس لبورسعيد؟ – أم تكيل الأمور بمكيالين بمعايير مزدوجة، تغيب عنها العدالة والإنصاف، لاعتبارات المصلحة الشخصية، والانحياز الثقافى؟ يمكننا اكتشاف الإجابة بقراءة مصرية جديدة لمحاربة الكرامة بالفن، من خلال ثلاث شخصيات محورية: جان دارك، فرديناند دليسبس، ونسخة تمثال شامبليون 1875 فى باريس.

• جان دارك؛ عام 1430، أُسرت بمعرفة القوات البورغندية الموالية للإنجليز وسُلمت لهم، فأخضعوها للمحاكمة التى أدانتها بتهم سياسية ودينية، وأُحرقت حية (بعمر 19 سنة)، لإضعاف وإهانة الملك شارل السابع كوجيعة فرنسية! وبعد 26 سنة أى 1456، أعاد البابا كاليستوس الثالث محاكمتها وبرّأها من تلك التهم، ثم 1920 أعلنتها الكنيسة الكاثوليكية قديسة، لتُعتبر رمزًا وطنيًا فرنسيًا، وترصع تماثيلها الميادين والمتاحف دومًا متقلدةً بسيف وعلم، كرمز للشجاعة والإيمان وحب الوطن. وبذلك تم توظيف الفن لتمجيد نضال فرنسا، لاستعادة كرامتها من محرقة الإنجليز، رفعا للظلم عن مواطنة فرنسية يُحتفل بها سنويا. لتكون مُكرَّمة تُحسب لفرنسا استماتتها للدفاع عن كرامتها وتخليدها بالفن.

• فرديناند ديلسبس؛ مهندس فرنسى قصته مع مشروع حفر قناة السويس والخديوى إسماعيل والنحات بارتولدى معروفة للجميع، ومن بورسعيد انتقل مع نجله لمشروع قناة بنما، وفى 1892 أُدين الاثنان بفرنسا بالاحتيال والرشوة بسبب المشروع، وحُكم عليهما بالسجن٥ سنوات، ولإدانته، قررت فرنسا منع تكريم دليسبس نهائيًا بها، كمُدان بقضايا تمس الشرف.أما فى مصر، فتم عمل تمثال لدليسبس بعد افتتاح القناة بـ30 سنة و5 سنوات من وفاته، وفرضته بمدخل القناة 1899 الإدارة الفرنسية لشركة القناة، ليجثم على أنفاس بورسعيد والمصريين، حتى قام أحد الفدائيين 1956 بإسقاطه لإهانة ذكراه سُخرة وهلاك عشرات الألوف من المصريين أثناء الحفر، واعتمد الرئيس عبد الناصر إزاحته من موقعه وإيداعه بالمخازن. وكما استماتت فرنسا – لأسباب موضوعية – لرد اعتبار جان دارك وتقديسها وتكريمها فرنسيا، تستميت بالمطالبة الرسمية من السفير الفرنسى للحكومة المصرية 2019 وجماعات الضغط ومُلتبسى الفهم، لعودة تمثال دليسبس لبورسعيد 2025، رغم منع تكريمه نهائيًا بها، باعتباره شخصية لا تستحق الاحترام الوطني! فكيف تمنع فرنسا تكريمه فرنسيًا وتطالب بذات الوقت بإعادة تمثاله لمصر بالمخالفة لقرار رئاسى وغضب شعبي؟ فإذا كان احترام وكرامة القانون والقضاء الفرنسى محفوظًا بفرنسا، فلماذا يرفضون العار هناك ويُكرم بمصر؟

• النحات أوجست بارتولدى ونسخة تمثال شامبليون 1875 المٌهينة؛ بدعس حذائه لرأس ملك مصرى قديم! فمنذ ظهرت قضية تمثال العار – كوصف أستاذنا د. وسيم السيسى – بتصويره ورفعه على اليوتيوب 2012 من المصرى الأصيل أ. هشام جاد وتفجيره لوجع المصريين حتى الآن، يزدحم الإنترنت والإعلام العالمى بزخم من التحفظات والرفض الشعبى والرسمى المصرى ضد التمثال المُسيء لكرامة مصر والمصريين، وتناشد فرنسا بإقصائه ومع ذلك ترفض فرنسا مجرد الرد الرسمى على الوجع المصري! بل يعلن سفيرها بمصر 2019 بذات مؤتمر مطالبته مصر بعودة تمثال دليسبس (تمثال شامبليون لن يُزال، فهو يعبر عن الروابط المصرية بفرنسا وهو هناك منذ 120 عاما، وسيظل 120 عاما دليلا على المناخ الثقافي)!؟ فكيف تعتبر فرنسا قضية جان دارك جزءًا من الكرامة الوطنية وأبت أن تهدأ إلا بعد إنصافها، وفى المقابل، تتجاهل حساسية تمثال شامبليون للكرامة الوطنية المصرية؟ بل رغم حجب فرنسا تكريم دليسبس داخليًا، تطالب مصر بإعادة تمثاله، وتنكر عليها وعلى المصريين حقهم فى استعادة كرامتهم المدعوسة!

ولنكون أكثر تحديدًا، هل يمكن اعتبار ذلك إنكارًا لحق وحماس مصر لحفظ كرامتها، بقدر حماس كرامة فرنسا تجاه جان دارك؟ وهل كانت خطوة جان دارك تصحيحًا تاريخيًا أم محاولة لإعادة بناء الهوية الوطنية الفرنسية، بعد هزيمة قاسية أمام الإنجليز؟ قد تُفهم النظرة الفرنسية لتمثالى شامبليون ودليسبس، بمنطق التفوق الثقافى (ولا نقول العنصرية الثقافية) تحت ادعاء اكتشاف شامبليون لفك رموز الهيروغليفية (وهو غير صحيح ومُثبت)، والفضل التجارى لدليسبس – الموصوم – على مصر بشق قناة السويس! ولكن أليس لمصر استلهام تجربة فرنسا مع جان دارك، للمطالبة بحقوقها المشروعة للدفاع عن كرامتها فى إقصاء تمثال شامبليون ورفض عودة دليسبس؟ وإذا كانت فرنسا لم تهدأ حتى أعادت الكرامة لرمزها، فلماذا تطلب منا أن نرضى بإهانة رموزنا، بل وفرض عارها الدليسبسى علينا؟ أزمة تمثال دليسبس ربطت سمعته بقناة السويس على حساب سُخرة المصريين فى الحفر اليدوى، وتسببه فى رصف قاع القناة بحياتهم ودموعهم، (وهو بذلك يختلف عن فرنسيين آخرين أفادوا مصر مثل ماسبيرو وميريت ورويا وأريجو، الذين كُرموا بمصر وفرنسا أيضا)!

إن رمزية محاربة تداعيات الكرامة المصرية بالفن الفرنسى، تترجمها استماتة فرنسا لعودة تمثال دليسبس لبورسعيد رغم حظره بفرنسا لفساده، وهو بمصر كان أبو السُخرة والإهانة، وخائن عرابى باشا وسبب احتلال إنجلترا لها 75 سنة! وهنا سيمكننا استيعاب قوة الصورة الذهنية العالمية لمعنى عودة التمثال بعد نجاح مصر فى إزالته! لتأتى محاولات إعادته قصرا أو تحايلا، كصورة مادية تقنعنا بألا نرى بذلك خنوعا أو عودة مطورة لسُخرتنا الحديثة! (فإذا كنتم أسقطتوا رمزية دليسبس فى تمثاله بفدائيين وقرار رئاسى، فسيعود برُسل السُخرة الجديدة! طالما لا يوجد لديكم فدائيو الفكر والكرامة المصرية لتفجير معنى العودة الحقيقي)، ليكون طبيعيا جدا استقرار انهزامنا داخليا باستمرار قبولنا التنفس تحت حذاء شامبليون! فيصبح هو شاطرا وكرامتنا مشطورا وما بينهما ساقط!

العلاقة وثيقة بين الثلاثة رموز لفهم معادلة عودة التمثال واستمرار الحذاء! فإذا أحرق الإنجليز جان دارك حية وهى مواطنة فرنسية، وأبدع دليسبس سُخرة المصريين والسبب فى استعمارهم، وقطع بارتولدى رقبة ملك مصرى، ألا تكون السُخرة والخيانة الدليسبسية، والحذاء الشامبليونى بمثابة الحرق الإنجليزى لجان دارك، وتكون فرنسا فى موقفها من الكرامة المصرية هى الجور الإنجليزى على الكرامة الفرنسية؟

من الموضوعية التاريخية والثقافية – وليس السياسية – مقارنة الموقف والعدالة والتكريم الفرنسى لجان دارك، مقابل الإدانة والسُخرة الدليسبسية والإهانة الشامبليونية لمصر! وبغير عدل حُكم المقارنة، فلن تُسعف حرية الإبداع فرنسا – ومن والاها – أو رغبتها فى حماية تاريخها ورموزها، لتفنيد تحركاتها المُريبة ضد الكرامة المصرية!

قضية رفض مصر إعادة دليسبس بعد إزالته، واستماتتها ضد مسخ بارتولدى الشامبليونى، قضية كرامة وطنية غير قابلة للمساومة، فكما رفضت فرنسا بقاء جان دارك رمزا للعار، تحتاج لفهم أن مصر لن تصمت على حذاء يهين رمز تاريخ وحضارة بالكامل، ولن يُدلس عليها للاحتفاء بنصاب السُخرة وحانوتى بورسعيد! وإذا كانت فرنسا بررت موقفها تجاه جان دارك بالاعتراف بالخطأ التاريخى وتصحيحه بحكم قضائى وقداسة، فلماذا لا تتخذ الموقف نفسه تجاه مصر، إيمانا وتطبيقا لمبادئ ثورتها (حرية ومساواة وإخاء)، المتناقض معها موقفها من الإصرار على عودة المُسقط المدان واستمرار الداعس المُهين؟

الكرامة الوطنية لا تعترف بالعنصرية أو تقبل التجزئة، سواء كانت لجان دارك، أو لرأس ملك مصرى تحت حذاء شامبليون، او لشعب بورسعيد بتجثيم دليسبس فوق أعناق وكرامة أهلها! فعندما تحارب الكرامة بالفن، متخفيا بحرية الإبداع، والتفوق الثقافى، وحماية التاريخ، فلا تتوقع من الوعى الجمعى للمصريين الجُدد استيعابا لقيم الكرامة والحرية والاعتزاز بالوطن! فما المستقبل الذى تتوقعه لتقدمهم، طالما يزخرف دربه ساقط ومُهين؟ لا لعودة تمثال دليسبس، ومعا لإقصاء شامبليون!

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]