استفزاز شامبليون والجهل بقضيته!

محمد بكري

9:17 ص, الأثنين, 23 ديسمبر 24

محمد بكري

محمد بكري

9:17 ص, الأثنين, 23 ديسمبر 24

كيف يخسر الـ«AI» حق مصر؟

أما القضية فهى حق مصر والمصريين ضد مسؤولية النحات الفرنسى فريدريك بارتولدى لإقصاء صنيعته نسخة تمثال (شامبليون) 1875 بساحة الشرف بمدخل السوربون/ بباريس (داعسا بحذائه هامة ملك مصري)، بوصفه من “التماثيل المُسيئة” طبقا لقوانين فرنسية ومواثيق دولية محددة تقنن الواقعة عند ثبوتها. وأما الاستفزاز فهو الصور والفيديو المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعى باستخدام الذكاء الاصطناعي، يظهر فيها فرعون يضع قدمه على رأس تارة أو كتف نابليون تارة أخرى، (كاحتجاج مصري) على التمثال المُهين لكرامة مصر والمصريين منذ ١٨٧٥ حتى يتم إقصاؤه. للأسف تعترى الكثيرين نشوة “الثأر” أو العين بالعين، كتعبير سطحى هابط لدفاع المصريين عن كرامتهم المدعوسة ماديا فى عمل فنى قديم، من نحات عالمى له بصمات لا تُنكر، دون اعتبار أو حساب لعواقب هذه السقطة الفنية، السياسية على حق مصر القانونى والتاريخي، فى اتباع الطرق القانونية لإثبات صفة الإساءة لتمثال العار طبقا لقانون التراث والبيئة البصرية الفرنسي. كثيرا ما يكون الطريق للنار مفروشًا بالنوايا الحسنة! فالجهل بالأبعاد التاريخية، والفنية، والسياسية لقضية تمثال شامبليون، ورطت (المتطوع) لتسخير الذكاء الاصطناعى لتصميم صورة تمثال مُسيء للثقافة والتاريخ الفرنسي، بما يفتح بابًا لإضاعة حق مصر والمصريين فى الدفاع الرسمى والشرعى – ليكون السؤال: هل الصور الجديدة تخدم مصر أم تضرها ولماذا؟ وهل إذا قُصد بهذه الصور خلق نوع من التوازن، فهل هو مشروع وفعّال، أم وئد لحق ودفاع حقيقى وجاد يستند لوقائع وتاريخ مُثبت ونقد فنى حاسم؟

الدفاع الصورى بالاستفزاز كنوع من الاحتجاج، يفسَّر كتشجيع للمواجهة بدلاً من اقتضاء الحق بالطرق المشروعة، بما يُضعف الموقف الرسمى والشعبى المعتبر التمثال الأصلى عملا مُسيئا لأهداف خبيثة تم إثباتها. استخدام شخصيات فرنسية تاريخية كنابليون فى سياق مسيء قد يؤدى لادعاءات مضادة من فرنسا أو داعمى التمثال، مما يُضعف الموقف القانونى المصري، لتشتيته بالرد على مهاجمة الرموز الوطنية الفرنسية، مما يُعقّد موقف مصر فى الحوار الثقافي، بزعم انتقام المصريين بدلاً من تصحيح الخطأ الأصلي! وهو ما سيخلق توترات دبلوماسية إذا تم تفسير الصور والفيديو كإهانة حديثة لرموز التاريخ والثقافة الفرنسية. منطق مصر فى الدفاع لإقصاء تمثال شامبليون محوره الذود عن كرامتها وحضارتها، بمنهجية حضارية وثقافية تحترم حقوق الإنسان والإبداع الحقيقى وليس الموتور، والرد بطريقة مشابهة سيُضعف هذه الصورة الحضارية، ويخلق جدلا يُشتت الانتباه عن القضية الأصلية.

على صعيد آخر، فهذا الفيديو والصور المستفزة يُخرج مصر والمصريين من ثوب الضحية، لطرف مساهم فى نزاع جديد، يشوه صورة مصر دوليا كدولة تعتمد الردود العاطفية بدلا من المنهجية القانونية، لتورطنا بجدلية مدى جدوى هذه التصرفات العشوائية؟ فتمثال شامبليون المسيء يُمثل تحديًا حقيقيًا، يلزمه رد حضارى وقانونى تثبت فيه مصر للعالم أن الحضارات العظيمة وأصحاب الحق يعتمدون على القيم والمبادئ والقانون لا التصرفات العشوائية، لتكون مطالبتها القانونية المشروعة مصدرا لإلهام العالم فى فن وحرفة الدفاع عن الكرامة مهما طال الزمن. فهذه الصور المستفزة ستفسد حجج مصر للدفاع تأسيسا على الاحترام المتبادل بين الشعوب وثقافتها وحضارتها.

من هنا كان الجهل بأبعاد قضية شامبليون وتداولها بين أيدٍ تُهدى الآخر سلاحا جاهزا لرده لنحورنا، سببا كافيا لتشويه صورة مصر أو توريطها فى مواقف عدائية لا تحتاجها فى معرض ترتيب دفاعها المشروع عن كرامتها بالطرق التى رسمها القانون الفرنسى والدولى والمصري. لذلك وجب تنبيه الإدارة المصرية ووزارة الثقافة لسرعة التصدى المباشر لتداول هذه الصور، وإدانتها سواء أكانت من إنتاج أطراف مصرية أو غير مصرية، بوصفها لا تُعبّر عن الموقف الرسمى لمصر، ومخاطبة وسائل التواصل الاجتماعى لحظرها، وإعلان مصر التزامها بالطرق القانونية المشروعة لرد الإساءة وفقا للقانون الفرنسى والدولي، وهو ما سيخلق ثقة ومصداقية للحق المصرى عند المطالبة الصحيحة.

فموقف مصر تجاه قضية تمثال شامبليون، يستند لحقائق، سياق تاريخي، مستندات، نقد فني، مصوغ داخل إطار قانونى ثابت من واقع قانونى التراث والبيئة البصرية الفرنسي، الميثاق العالمى لحقوق الإنسان، والقانون المصري. فى حين لا تستند الصور المستفزة لأى إطار قانوني، ويحكمها منطق الرد العاطفى لإثارة الرأى العام وتفريغ أسس القضية الأصلية من مضمونها، بما يضعف من الدعم الدولى لمصر والمصريين عند لجوئهم للشكوى الصحيحة، ويشكك بنوايا مصر تجاه فرنسا، بخلاف ما تثيره من تعقيد الموقف الثقافى والسياسى لجدال حول تجاوز حد الدفاع الشرعى (بالالتزام بالشرعية القانونية)، باللجوء للنيل من الرموز الفرنسية الوطنية بأيدٍ مصرية حديثة، لم تنجح فى قضيتها الأصلية (مقدرش على الحمار فهاجم البردعة!)، ولا شك أن “البارتولديين” وأنصار التمثال المُسيء وفرنسا سيجدونها فرصة ذهبية لتئد القضية الأصلية بإثارة رماد العنصرية المصرية الحديثة فى عيون حقهم لدفاعهم المشروع عن كرامتهم! بما يُكسب فرنسا دعما غير مباشر بالمجتمع الثقافى الدولي، ويبرد أى حمية مصرية للدفاع عن حضارتها وكرامتها، ليستمر تمثال العار فى قهره لقلوبنا! ولن تكون هذه الصور المستفزة العشوائية سوى حصان طروادة الذى سيستمر به تمثال شامبليون داعسا لهامتنا.

أناشد وزارة الثقافة والإدارة المصرية، منح فرصة عادلة للمصريين ودعمهم فى تقدمهم بشكوى رسمية لوزارتى الثقافة والتعليم الفرنسي، لإقصاء النسخة المسيئة لتمثال شامبليون 1875، طبقا لمركز قانونى صحيح وثابت ومُسند، ينتظره طريق طويل وصعاب جادة، ومع ذلك لا يخشى فى الحق لومة لائم، ولا يلجأ للاستفزاز أو الكيد كوسائل دفاع لا تليق إلا بعجزة التدبير وقليلى الحيلة وساقطى الحجج، فليس بهذا تحفظ الدول كرامتها أو تسترد حقوقها! خاصة إذا فكرنا فى أثر هذا الأسلوب على مطالب مصر فى استرداد حجر رشيد ورأس نفرتيتي، ونظرة المجتمع الدولى لبلد لا يتورع عن خلط الأوراق ومهاجمة الرموز الوطنية الأجنبية بزعم الدفاع عن حق تدعى أصالته ولم تفلح فى اقتضائه! ولتصور أبعاد هذه الإشكالية لنفكر هل كانت ستنجح مصر فى استرداد طابا، أو قضية هضبة الأهرام إذا اتبعت النهج نفسه وقتها؟

آن الوقت لوزارة الثقافة أن تتصدى للحق وتدعم المصريين فى دفاعهم عن كرامتهم – فهل من مُجيب؟

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]