الذكاء والغباء فى السياسة ـ نظريات المؤامرة 2
استمعتُ أو قرأتُ لثلاثة أشكال، على الأقل، من نظريات المؤامرة، أولًا نظريات ترى أن العالم يحكمه من وراء الستار عدد محدود جدًّا من الأشخاص، يتعاونون أو يتصارعون فيما بينهم، وتقول إن كل ما يحدث فى العالم سببه أفعال وقرارات أحدهم أو مجموعتهم. وهناك ثانيًا نظريات أخرى ترى أن هناك إما دولة أو ملة سيطرت على نُخب الحكم والمال والإعلام فى كل أنحاء المعمورة، وأخضعت الجميع لينفذوا أجندة هذه الدولة أو الملة الشريرة شرًّا يؤطّر كل تصرفاتها، وهناك أخيرًا نوع ثالث يرى أن العالم بكل فصائله وأطيافه وفاعليه يكرهون شعبًا أو ملة دينية أو جماعة سياسية ينتمى إليها صاحب الرواية، وأن إبادة أو إخضاع هذا الشعب أو هذه الملة أو الجماعة، أو على الأقل منعهم من الاضطلاع بمهمتهم التاريخية، هو الهدف الرئيس، وأحيانًا الوحيد لكل الفاعلين، فهم كلهم على باطل، والشعب أو الملة أو الجماعة هى صاحبة الحقيقة، والحقيقة دائمًا تُخيف الظالمين والطغاة وأنصار الضلال المستفيدين منه. وأقول، قبل أى تفصيل، إنه من الطبيعى أن يرى كل مؤمن بِدين أو كل صاحب مذهب أو بعض كثير منهم أنه يمتلك الحقيقة وحده دون غيره. ما هو غير طبيعى هو تصور أن الكل يشن ضد دينه أو مذهبه حربًا هدفها الإخضاع الكامل أو الإبادة، وأن هذا الإخضاع وهذه الإبادة الهدف الذى يحكم كل فكره وكل تصرفاته.
لا أريد إخفاء حيرتى عن القارئ الكريم، بدأت هذا المقال عازمًا على إجراء تمييز بين نظريات مؤامرة لا يمكن لأى عقل تلقَّى قدرًا محدودًا من التعليم أن يصدقها، ومن ثم فهى لا تستحق أى مناقشة، وبين نظريات أخرى يتطلب بيان فسادها جهدًا وشرحًا لآليات العمل السياسى وتوضيحًا لثقافات الفاعلين؛ لبيان ما هو ممكن وما هو مستحيل. والمشكلة فى أن ما أراه صعبًا تصديقه يؤمن به الكثيرون، منها، على سبيل المثال، الرواية التى تقول إن الزلزال الذى يصيب شعبًا نحبه من تدبير المخابرات المركزية الأمريكية أو الموساد. ما أستطيع أن أقوله إن مُروّجى هذه الرواية لا يعرفون كم يضرّون القضية التى يؤمنون بها، يصورون عدوهم على أنه يملك قدرات الآلهة، يفسدون وعى أهلهم وعشيرتهم، يبثّون الإحباط والخوف، ويتيحون سلاحًا للأعداء الحقيقيين أو المحتملين؛ سلاح السخرية والتسفيه.
أفهم أن هذا ليس مقصدهم. وليسامحْنى القارئ، إن توغلتُ فى مناطق حرجة. هناك ميل شائع إلى اعتبار الكوارث الطبيعية عقابًا ربانيًّا لإثمٍ ارتكبته الضحية، لا أستفيض فى بيان عدم أخلاقية إدانة ضحية لا علاقة لها بنا، وأعترف بأننى أقاوم أفكارًا من هذه العيّنة وردتْ بين الحين والآخر على خاطرى، لا أدّعى الفضيلة فأنا خطّاء.
ولبيان فساد هذه المقولات أسوق مثالًا… الكوارث التى لحقت إسبانيا… الكثير منا اعتبرها عقابًا ربانيًّا لطرد المسلمين من الأندلس، والكثير من المتدينين الإسرائيليين اعتبرها عقابًا ربانيًّا لقيام إسبانيا بنصرة القضية العربية. مَن على حق؟ الكل ينسب لنفسه القدرة على فهم مشيئة الله، واحتكار هذه القدرة. وأتصور أن هذا إثم عظيم، وللأسف شائع، ليس فحسب فى صفوفنا.
المهم، عندما يسود مثل هذه التصورات، نجد الأفراد يواجهون مأزقًا إن أصابت مصيبة قومًا من أهل الحق، قد يفسرون هذه المصيبة على أنها امتحان من الله سبحانه وتعالى، وقد يرون أن هذه المصيبة تُخالف نواميس الكون، كما يتصورونها، ومن ثم فهى نتيجة فعل فاعل، حتى لو كان هذا مستحيلًا.
فى المقالات التالية سأميّز بين هذه العيّنة من الروايات، وروايات أخرى تبدو أكثر وجاهة أو أقل جنونًا لأن لها علاقةً ما بالواقع، تقوم بالتضخيم من شأن ظاهرة ومن شأن تأثيرها، على سبيل المثال هناك فعلًا أفراد يمتلكون نفوذًا هائلًا وخفيًّا عن الأنظار، هل هم يحكمون العالم؟ لا.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية