خواطر مواطن مهموم 268

توفيق اكليمندوس

10:14 ص, الأحد, 17 نوفمبر 24

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

10:14 ص, الأحد, 17 نوفمبر 24

ذكريات

بعد تخرجى فى كلية الحقوق جامعة القاهرة، عملت فى مكتب وكالة الأنباء الفرنسية بالقاهرة، وعلَّمنى الصحفيون العاملون هناك كيفية تحرير برقية إخبارية، وشدد أساتذتى على ضرورة إتقان صياغة الفقرة الأولى من الخبر، وعلى كيفية تمرير رسائل فيها مع التظاهر بالحيادية التامة. كنت كثير الحديث مع ألكسندر بوتشانتى، ومع روفائيل كوستى مدير القسم العربى بالوكالة، ومع مدير المكتب السيد إنياس دال، وكانت علاقتى حسنة مع الأساتذة رامى ناحول ونبيل جومبير، ولاحقًا انضم أحمد لطفى إلى الفريق، وكان صحفيًّا قديرًا يعمل فى الإذاعة.

كان العداء للسياسات الإسرائيلية القاسم المشترك بيننا آنذاك، وكنا نختلف فى الباقي؛ أى فى التوجهات السياسية والاقتصادية، وفى تقييم رموز العمل السياسى والإعلامى بمصر، المدير كان كثير التواصل مع باريس، يحتج على توجهات بعض المحررين فى باريس، وصياغتهم أخبار المنطقة بأسلوب يروّج للخطابات اليمينية الإسرائيلية، وكانوا يحتجون على توجهاته وصياغته الأخبار التى تروج للمواقف العربية.

كان مراسلو الجرائد والتليفزيون الفرنسيون يمرون بين حين وآخر على المكتب، يتحاورون معنا، يمدوننا بأخبار ويطلبون رأينا ويعلقون على الأحداث، وأتذكر رد فعل مراسل جريدة لوموند عندما دخلت القوات العراقية إيران، صاح قائلًا: هل هذا الرجل حمار؟ لن يستطيع الانتصار على إيران، وستستمر الحرب عدة سنوات، ولن يستفيد أحد منها. وهدأ قليلًا وشرح لى التركيبة الاجتماعية للعراق، وطبيعة النظام العراقى، وحقيقة موازين القوة فى المنطقة، ودوافع الحرب.

وأتذكر متابعتنا الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكان أغلب الفريق يؤيد إعادة انتخاب الرئيس كارتر، شأنهم شأن قطاعات كبيرة من الرأى العام المصرى، كانوا يتصورون أن كارتر غاضب من مناحم بيجين، رئيس الحكومة الإسرائيلية، وأنه سيكون أكثر قدرة على “شكمه” إن فاز بولاية ثانية؛ لأنه لن يحتاج إلى أصوات اليهود لأنه لن يرشح نفسه بعد ذلك.

كنت فاهمًا- بفضل مناقشات مع الآباء اليسوعيين ومع المراسل الدبلوماسى للأهرام المرحوم حمدى فؤاد- أن الأمور ليست بهذه البساطة والتفاهة، وكنت… على عكس الفريق… مؤيدًا لريجان، لأسباب تبدو لى، اليوم، غبية، كنت شديد الاستياء من الغزو السوفييتى لأفغانستان، ومن قيام الدولة الإيرانية باختطاف دبلوماسيين أمريكيين، وكنت أميل إلى تصديق الأقاويل التى تنسب هذا التغول إلى ضعف الرئيس كارتر. وكنت معجبًا بخطاب الجمهوريين.

مصدر هذا التصور كان خالى سامى… كان مقيمًا فى جنوب أفريقيا، لكنه عاد يزور مصر بعد زيارة السادات للقدس، وكان شديد العداء لإسرائيل، وللحزب الديمقراطى الأمريكى، وللاتحاد السوفييتى، وشديد الإعجاب بالجمهوريين، وقال لى… الضعف والحسابات الخاطئة من ثوابت الحزب الديمقراطى، ولم أفهم لحظتها حدة لهجته، واليوم أتصور أنه شكّل رؤيته للعالم سنة 1956، فهو انخرط فى الدفاع المدنى والمقاومة الشعبية، وأكبر الرئيس آيزنهاور لأنه أجبر الإسرائيليين على الانسحاب من سيناء.

وكان مؤيدًا لمبادرة السلام، وكانت حجته الرئيسة التفوق العلمى والعسكرى والتكنولوجى للولايات المتحدة على الاتحاد السوفييتى، وحجته الثانوية أن ارتباط الولايات المتحدة بإسرائيل أوثق وأعمق من ارتباط والتزام الاتحاد السوفييتى بالقضايا العربية. فيما يخصنى لم أكن مقتنعًا بفكرة التفوق العسكرى للولايات المتحدة، حرب 73 كانت تثبت عكس ذلك، فى رأيى، أما موقفى من مبادرة السادات فكان متقلبًا، أيدتُ الزيارة إلى القدس، شأنى شأن الجماهير الغفيرة التى كانت تريد أن تطوى صفحة الحرب، لكن اتفاقيات كامب ديفيد جاءت مخيبة لآمالى. لفهم هذا، علينا أن نتذكر أن السفارة الإسرائيلية وجدت فى القاهرة قبل اكتمال الانسحاب، وأن بيجين تعمّد إهانة السادات مرات ومرات، والرئيس يكتم غيظه، كان يدرك، على عكس الشارع، أن الإسرائيليين يريدون منع أى مصالحة مصرية عربية، وربما كانوا يبحثون عن ذريعة لتعطيل الانسحاب من سيناء. وفيما يخصنى، كان هناك دافع طائفى فى موقفى الرافض للاتفاقيات، كنت غاضبًا من موقف الرئيس من الفتنة الطائفية، وأخشى أن يكون الأقباط كبش فداء.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية