خواطر مواطن مهموم 265

توفيق اكليمندوس

9:17 ص, الأحد, 27 أكتوبر 24

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:17 ص, الأحد, 27 أكتوبر 24

عن الأخلاق والسياسة (2)

“الغاية تبرر الوسيلة”.. جملة شهيرة لمكيافيلى، ويُفهم منها أنه لا مكان للأخلاق فى السياسة.

أزعم أن الاستشهاد بها دون قراءة متأنية لأعمال المفكر الإيطالى الكبير هى كمن يقول “لا تقربوا الصلاة” دون أن يُكمل. هناك عدة قراءات ممكنة لما قاله مكيافيلى، لكن الغالب أنه قصد أن منظومة الأخلاق الحاكمة والسائدة فى المجال السياسى وفى العمل السياسى مختلفة عن تلك التى تحكم مجالات أخرى من السلوك والعمل الإنسانيين والفرديين.

هناك طبعًا اختلاف عميق بين منطق الأخلاق – بصفة عامة – ومنطق السياسة، نتمسك فرديًّا بمكارم الأخلاق؛ لأنها مكارم الأخلاق وليس لتحقيق منافع، نتمسك بها حتى لو كلفَنا هذا الكثير، وحتى لو انهزمنا أو أفلسنا؛ لأننا نفترض أن الله و/ أو ضميرنا يراقبان. فى السياسة النتائج والمنافع مهمة، المكسب والخسارة مهمان، ليس ضروريًّا أن يكون المكسب ماديًّا، أو قابلًا للقياس، قد يكون معنويًّا، يستحيل قياسه، لكن النتيجة والمحصّلة مهمتان. القائد السياسى، الذى يقرر دخول حرب لنصرة طرف آخر ضعيف ومظلوم، رغم أنه يعلم تمامًا أن المواجهة ستجلب الهزيمة والدمار، قائد يجمع بين عدم الإحساس بالمسئولية والغباء، وحتى لو افترضنا أنه ضَمن النصر، لا يصح التدخل الذى لا يحقق منفعة مادية أو معنوية.

هذه مقاربة أولية وضرورية، لكن الأمور أكثر تعقيدًا، نتأمل مثال القائد الذى قرر التدخل لنصرة طرف ضعيف، رغم إدراكه كون الخسارة “مضمونة”، هل نستطيع أن نصف تصرفه بالأخلاقي؟ هل عدم الإحساس بالمسئولية تجاه المحكومين أخلاق؟ ومن ناحية، تأملْ معى مفهوم “المنفعة المعنوية”… الانتماء إلى دولة “خلوقة” و”شهمة” يدفع المواطن إلى الإجادة، ويؤثر إيجابًا على روحه المعنوية، وعلى نظرته للأمور، وتمتع الدولة وقيادتها بإعجاب قطاعات كثيرة من الرأى العام فى دول أخرى مكسب صعب قياسه، لكن لا يمكن التقليل منه.

سمعت كثيرًا نقدًا موجهًا إما لعبد الناصر أو للسادات… يقول إنهما بحَثا دائمًا عن مجد شخصى، وطبعًا لا أعلم، ولا يعلم غيرى، سرائر شخصيات القادة، لكن السؤال هو: هل هذا المجد الشخصى رصيد لمصر أم انتقاص منها؟ موضوعيًّا، الرد هو “رصيد أحيانًا وعبء أحيانًا”، والمهم فى هذا الصدد… لو افترضنا – على عكس رأيى – أن دافع هذا أو ذاك كان أنانيًّا نرجسيًّا، لا أكثر ولا أقل، يبقى مع ذلك أن هذا العيب الأخلاقى الجسيم جلب لمصر منافع مهمة فى مراحل كثيرة. فى كل أزمة من الأزمات الدولية الكبرى، كان قادة الدول الكبرى يسألون مستشاريهم: “كيف سيتصرف عبد الناصر؟ وماذا سيقول”، حتى لو كانت هذه الأزمة فى أمريكا اللاتينية. ومصر استفادت من هذه المكانة كثيرًا… وتضررت كثيرًا أيضًا.

قضية أخرى ليست بعيدة عما نثيره هو دور الثقة فى العلاقات الدولية، هنا أيضًا يميل عدد كبير من الخبراء إلى القول إن الأصل فى العلاقات الدولية عدم الثقة، وأن الطرف الذى يثق فى غيره ساذَج وغبى، وأن الشك الدائم والافتراض الدائم لسوء نية الفاعلين الآخرين وعدم تقيدهم بأى حد أخلاقى، هما المنهج السليم الواعى الواقى.

بدايةً، أشير إلى كون هذا الافتراض يبنى، فى أحوال كثيرة، واقعًا يؤكده؛ بمعنى أن افتراضى سوء نية الفاعلين – من أعداء ومناوئين وشركاء وأصدقاء وأشقاء – يدفعنى إلى تبنّى سلوك غير أخلاقى معه، قائم على الشك والخداع والتقلب السريع، مما يكرس انطباعًا بأننى لا أخلاقيّ، ولا يمكن الثقة فيَّ ويدفع الآخرين إلى التعامل معى على هذا الأساس، وبالأسلوب نفسه، مما يقوّى قناعاتى عنهم، فأستمر فى نهجى… إلخ.

قد يكون هذا القدَر المحتوم للعلاقات الدولية، لكننى أتصور أن العمل الجاد على بناء الثقة، أو على الأقل ثقة نسبية مع عدد من الفُرقاء، أمر ضرورى، لا أتحدث عن ثقة عمياء، بل عن ثقة نسبية نابعة من فهم الثقافات الأخرى.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية