ذكريات 1967
يوم 5 يونيو كان أول يوم امتحانات، ولم أكن مستريحًا لأننى لم أكن أحب المدرسات… على عكس السنوات الماضية.
زملاء فى الدفعة تكلمت معهم يقولون إنهم سمعوا أزيز الطائرات وصدى الانفجارات ولكننى لا أتذكر هذا، أولى ذكريات شخصية لى مع القصف تعود إلى أيام حرب الاستنزاف.
لم نمتحن… نزلنا فى المخابئ. وقيل لنا بدأت الحرب. هل كنت فاهمًا لمعنى هذا؟ لا أظن. كنت أعرف فقط أن هناك احتمالات قصف تقتضى عدم الإضاءة ليلًا، وأن هذا كان صعبًا، إذ كان فى البيت طفل رضيع وُلد فى منتصف مايو.
فى عائلتى تحديدًا، كنا ممنوعين من مشاهدة التليفزيون، لحثِّنا على القراءة ولمنعنا من السهر، ولكن الكتب الموجودة بالبيت كانت باللغة الفرنسية. باختصار لم يكن لديَّ أى وسيلة للاطلاع على ما يحدث.
المهم… أعلن المدرسون أنه تم إلغاء الامتحانات، لا أذكر إن تحدثوا عن إلغاء أو تأجيل. وعلى أى حال، لم نمتحن لا يومها ولا بعدها، وقالوا إنه تم إلغاء خدمة الأتوبيسات، وأنهم طلبوا من الأهالى الحضور إلى المدرسة لاصطحابنا إلى منازلنا، وبدأ الأهالى يتوافدون على المدرسة، وبعدها بساعتين وجدت نفسى وحدى ومعى تلميذ أصغر سنًّا، لا أحد يأتى، وبدأت أتساءل: هل تم قصف البيت، هل مات أهلي… كان صوت داخلى يقلل من هواجسى دون القضاء عليها… وسألت، وقيل لي… التأخير عجيب، ولكن وسط البلد لم يُضرب. وتدريجيًّا توتر المدرسون… يريدون العودة إلى منازلهم، ولكن وجود تلميذين يمنع هذا.
بعد الواحدة والنصف، ظهر الوالد ومعه والد التلميذ الآخر، واعتذرا للتأخر، ولكنهما كانا مبتسمين مسرورين… وقال الوالد… يبدو أن العمليات تسير لصالحنا. كله تمام. وركبنا كلنا فى سيارة والد التلميذ الآخر، وكان يعمل صحفيًّا. واستمعنا إلى الراديو، ولم أكن أفهم أى شيء مما يقوله المذيع… سوى أنه تم إسقاط عشرات من طائرات العدو، وربما المئات، وفجأة وبعد إذاعة بيان جديد تبادل الوالدان النظرات وقال الصحفي… يكذبون. الأرقام المعلَنة غير معقولة. يكذبون… وساد الوجوم.
فى الثمانينات والتسعينات من القرن الماضى تكلمت كثيرًا مع أصدقاء أكبر منى سنًّا… المشترك بينهم أنهم أطباء أبناء أطباء، أهمهم فى قلبى الدكتور أحمد قاسم رحمه الله، وكان يكبرنى بست سنوات، وكان نبيلًا رفيع المقام مضيافًا ذكيًّا اجتماعيًّا، وفهمت من هذه المناقشات أن الأطباء وعائلاتهم فهموا هول الكارثة مساء 5 يونيو أو صباح/ مساء يوم 6… عندما بدأ وصول الآلاف من المصابين والمشوّهين إلى المستشفيات، يتكلمون عما شاهدوه وعن شراسة الهجوم وعن عدم وجود أى غطاء جوى، وعن جهنم الجبهة ومأساة الانسحاب. كل هذا بينما تتوالى بيانات كاذبة… وبعدها بأيام.. غالبًا بعد خطاب التنحي… طُولب منهم الاحتشاد فى مسيرة تطالب الرئيس بالبقاء… وامتثل الكثيرون، ورفض القليل… والكل غاضب… لأن المطلوب يعنى فى الواقع ترك المصابين، وحالة أغلبهم حرجة. ويقولون كلهم… بعدها لم يعد فى الإمكان الثقة فى النظام، ولا تصديق أى كلمة من كلامه.
لا أدرك ولا أعرف متى عرف الوالد الحقيقة. ما أعرفه أننى سمعت البواب والخادم وأناسًا من الشعب يرفضون التنحى بحجج مختلفة… أغلبها يدور حول فكرة «عليه إخراجنا من النفق المظلم الذى أدخلنا فيه»… وبعضها بمنطق «لا نريد إسعاد إسرائيل وأصحابها». وأتذكر أيضًا أن الوالدة صاحت… أيام اليسر انتهت… ستكون الحياة بالغة الصعوبة.
ولكننى لم أسمع كلمة «هزيمة» إلا بعد خطاب التنحى بأيام أو بأسابيع، كنا فى نادى الجزيرة، وكان على عكس المعتاد شبه خالٍ، وكان الوجوم واضحًا ثقيلًا، وسألت الوالدة ما الخَطب… وقالت لي: هُزمنا هزيمة منكرة.
لم يردَّ الوالد على أى تساؤل. ومن شرح لى «الوضع» جدى لأمى اليونانى، وقال لي… النفق مظلم، ولكن ما أُخذ بالقوة يجب أن يُسترد بالقوة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية