لمح (مو نافع) – هكذا اسمه – اللمبة الحمراء لانتهاء الطاقة بتابلوه سيارته الكهربائية الفارهة، وهو على مشارف شارع التسعين، تاركًا خلفه فيلته الرائعة بحى المميزين بكومباوند أهل الخاصة، الذى لم ينجُ من قطع الكهرباء! وعضَّ على شفته اعتماده على شحن مقطوع الأنفاس قاده للموات ببقعة جرداء، تحولت فيها سيارته الحمراء لبقعة دم على أسفلت سميك، مرصع بأعمدة أسمنت تعكس الهجير. وقف مو تحت ظل أحد الكبارى يراقب نقطة دم بـ4 ملايين جم! يتركها تغتال من الرعاع ويكمل طريقه، أم ينصب خيمة بجوارها لربما يمر أحد بشاحن Type C؟
فى أيام العيد لا تتوقع مرورًا أو مساعدات من أحد، خصوصًا الأيام الحارقة! وفجأة وبعد ساعة فى الهجير، لاح مينى باص قادم يتهادى عن بُعد، وقف أمامه ليقرأ عليه عبارة (المخصوص)، وفتح بابه فهبّت عليه نفحة مثلجة جذبته كالنداهة! دسَّ مفتاح سيارته بجيبه وتمسَّك بعلبة الهدية بيساره، ودلف للمركبة مارًّا لمقعده بعدة ركاب يغلفهم الصمت والغرابة، وجميعهم يضعون علبًا مغلقة على أرجلهم! جلس مو فى نهاية العربة وقد بدأت أنفاسه وحواسه تنتظم لينتبه لغرابة السيارة؟ سقف مرايا، تكييف مثلج، سائق صارم بكاب أسود، وبجوار كل كرسى وحدة أزرار بعناوين (ميدان الثورة – شارع الجمهورية – حى أمرنا لله – محطة القيادة المشتركة – مزرعة الأمل – أرض الميعاد – عطفة المماليك – مطار القاهرة – جنة الأزهر – درب العوالم – سكة اللى ميرجعش).
اعتقد مو للحظة معايشته لأحد أروقة محاكمة كافكا من غرابة المينى باص وركابه! وتدريجيًّا اكتشف أنه يلبس مثلهم عن غير قصد، والاختلافات كانت فى العلب القابعة على أرجلهم فقط! وبلمحة فضولية سأل جاره عن وجهته؟ فردّ (لم أختر بعدُ من القائمة، فكلها مُشهيات ولم أُفق من النوم بعد)! اندهش مو جدًّا وسأله مجددًا منذ متى وهو راكب؟ فقال (من 6 أيام وراكب الصف الأول من شهرين تقريبًا! لا تقلق يا سيد نافع، فستعتاد الطريق)! لم يستوعب مو إجابة جاره، وقال بسرعة: (حضرتك تعرفني، شفتنى فى التليفزيون؟) فردَّ الجار: (كلنا هنا رجال ونساء نعرف بعض، كلنا واحد متقلقش، وبكرة تعرف! الشاب فمقعد 7 نبتت لحيته أمس، مسألة وقت)! تفاجأ مو أكثر وقال: (أنا عاوز أنزل)! فابتسم جاره بسماحة وقال: (مش أما تختار محطتك الأول؟)! وأشار لشريط إعلانى يدور بمستطيل السقف، عليه عبارات (المخصوص – تحت الطلب – الرحلة – لا وقت للشحن – ممنوع الوقوف – اختر لتنزل – علبتك تكفيك – ممنوع إزعاج السائق الأصنج)!
انتابت مو حالة من الرعب لمينى باص المجانين، السائر من شهرين ولا يريد أحد أن ينزل منه؛ لأنه لا أحد اختار بعد! وحانت التفاتة منه عبر الزجاج ليرى أشخاصًا يلوّحون للمركبة ولا تقف، وموتوسكيلات تُسابقها، والسائق يُحكم كابه الأسود على أذنيه، وبابتسامة شاحبة يدق بوق التايتانيك وسط أمواج متلاطمة من الأسفلت والأسمنت وجذوع منحورة ورقاب فراخ تتدحرج بين العجل! لم يفهم مو هذه اللوحة السريالية، المتوقفة إفاقته منها على اختيار محطته، العاجز عن إبلاغها للسائق الأطرش! وبدأ يتملل فى مقعده، فربت جاره على ركبته بابتسامة عطف هامسًا: (مش إنت اللى ركبت؟ انتظر.. فرجه قريب)!
أمواج التكييف نخرت رأسه ويديه، فرفع رأسه يعب أنفاسًا إضافية، فإذا بمرايا السقف تعكس صورًا مفتوحة لعلب الركاب، التى اندهش مو من احتوائها كلها على «كنافة»! دقق مو نظره فإذا أحدها كنافة محشوة بأرجل دجاج، وأخرى بصحف ومجلات، وثالثة بكتب قديمة صغيرة، ورابعة بطلقات، وخامسة مثلثات موزعة بين أسمنت ودقيق وورق شجر، وتابع صف علب الركاب فى مراية الكنافة العجيبة، حتى وصل للسائق الأطرش فوجد كنافة تعليمات التشغيل! ثم عاد بسرعة لينظر إلى علبته فوجدها كنافة محشوة بعملات معدنية! لهذا الحد ولم يقو مو على الاستمرار فى التنفس، وشعر بأن محركات دماغه قاربت على الانفجار من هذه الرحلة الممحونة! فالعلب يراها مغلقة، وفى مرايا السقف كنافة مكشوفة؟ وكأن جاره شعر بمحنته فقال: (لا تقلق على نقطة دمك، فإسعاف الرعاع نشط جدًّا، وتنظيف الأسفلت مهمتهم المقدسة! أحد الركاب ترك بلده ووجدها فى سوق الجمعة من سنتين).
رجع مو فى مقعده، ووقر فى نفسه حسم الضغط على زر أحد العناوين لينتهى من هذه الركوبة السخيفة، وعاد للاختيار.. ومع كل عنوان يدوخ فى معناه حتى سماعه أذان الفجر! لم تتوقف أوجه الركاب عن الابتسام المتكلف وتبادل أحاديث هامسة، ومن وقت لآخر تسمع ضحكة فرح أو صرخة موت، فيتوقف الشريط الإعلانى ثوانى ليعود للفّ بلا نهاية! انكبّ مو على الراكب أمامه متسائلًا: (هل يوجد حمام هنا؟)، فابتسم قائلًا: (ومن يحتاج؟ إخراجنا دموع وضحكات! فلا تشغل بالك، نظامك الداخلى هيعرف كل حاجة فلا تقلق)! عاد مو ليغوص فى مقعده يحاول لعبة الاختيار، وكان عيد الفطر على الأبواب، ولعن نفسه لأنه لم يكمل قراءة رواية المحاكمة لكافكا ليعرف مصيره! وعاد لمراية السقف ليجد كنافة جاره محشوة بالدموع! فتوجع ومال عليه قائلًا: (كنافة بالدموع؟)، فتنهد جاره وقال: (هى لابنى الصغير وصمم آخذها لأتذكره، أعتقد هو فى إعدادى الآن – عندك أولاد؟)، أشاح مو ببصره وقال هامسًا: (بنات أفكاري، أحدهما شرق، والأخرى غرب، بس محترفين كنافة بدون علب)!
تدريجيًّا ارتاح مو للمقعد، وتوسّده واتخذه متكأ وسريرًا ومكتبًا، وتعجّب من عدم توقف المركبة أو تزويدها بالوقود؟ فمال على جاره قائلًا: (بقالنا شهرين بدون تغيير عجل ولا وقود، هنكمل إزاي؟) فاندهش جاره للسؤال وقال: (خلتك تعرف؟ الإطارات من رءوس الركاب وبنشحن من طاقتنا – إحنا اكتفاء ذاتى يا نافع بك، وبكرة تتأكد – وما صبرك إلا بالله)!
رجع مو نافع بظهره لعمق المقعد بعيون نصف مفتوحة وتلافيف مخ مستكينة، وهمس لجاره: (هو ليه مفيش عنوان سوق الجمعة كنت أختاره وآخد سيارتى من هناك وأرجع؟)، فابتسم الجار الحصيف: (هو رقم عربيتك كام؟) – (ص.ف.ر I ١)، فابتسم الجار مطمئنًا وقال: (لا تقلق، أنت وصلت بالفعل).
* محامى وكاتب مصرى