هل المماليك نظام أم جينات؟ هل انتهى حكمهم بالغزو العثمانى فى 1517، أم تطورت منظومة صلاح الدين الأيوبي، والصالح نجم الدين أيوب، وقطز وبيبرس، فترقى نظامهم، ليشمل الجوانب الإدارية والاجتماعية والثقافية، ويصبحوا جزءًا من النخبة الحاكمة، ويتمتعوا بسلطات وامتيازات كبيرة، مما حولهم من جنود عبيد لحكام وسلاطين؟ فى الأصل؛ تم شراء المماليك – كعبيد وأسرى حرب – وتدريبهم ليصبحوا جنودًا ومحاربين فى الجيش الإسلامي، ورغم بدايتهم كعبيد تلقوا تدريبًا عسكريًا عالى المستوى وتعليمًا جيدًا، أثبتوا معه جدارتهم وشجاعتهم كمحاربين، وتمكن العديد منهم تسلق السلم الاجتماعى والسياسى ليصبحوا قادة وأمراء، وفى النهاية حكامًا وسلاطين.
ورغم كفاءتهم العسكرية، وانضباطهم، وولائهم للسلطان، وخبرتهم الإدارية واستقلالهم النسبي، تبلورت خطورتهم فى ضعف ولائهم الوطني، اعتمادهم على شخصية القائد، الصراعات والمنافسة الداخلية، تحولهم لطبقة أرستقراطية علت على الشعب، بالفساد والمصالح الشخصية، واستنزافهم المالى لموارد الاقتصاد! تدريجيا، تحولوا لنخبة مميزة لهم نظام وملابس وطقوس وعادات وتسليح ومميزات، جعلت لهم ثقافة ووعيًا خاصًا أثروا به فى المجتمع ومفاصل الدولة! فكان هناك وعى وثقافة السلطان والدولة، ووعى وثقافة الشعب، ووعى وثقافة المماليك! وهو ما قسّم المجتمع إلى المماليك، ومن يستفيد منهم، ومن يقاسى فسادهم! فاستفاد السلطان ودست الحكم من حمايتهم وعصاهم، والتجار والاقتصاديون من الدخول فى صفقاتهم وسيطرتهم على الأسواق، والفنانون والمستعرضون من رعايتهم للفن بأنواعه ولو هابطًا! وعانى منهم ملح الأرض الذى حولوه لأرقام وأحجار شطرنج!
تطور وعى المماليك بمصالحهم الخاصة، ليتجاوز ولاءهم التقليدى لمالكيهم بمرور الوقت، بفرض وعيهم المتزايد بمصالحهم الخاصة وأهدافهم الشخصية! فطمحوا للتحرر والتصعيد الاجتماعي، استقلالهم فى السلطة بامتيازات اقتصادية واجتماعية بتملك الأراضى والاستحواذ على المشروعات والمشاركة فيها، وحتم وعيهم بحفظ وجودهم تكوينهم شبكات ولاء داخلية عميقة، تحالفات سياسية مع النخبة وقادة المقهورين. غير أن كل ذلك لم يمنعهم من الاستثمار فى الفساد الإدارى والتجارى وفرض الضرائب، مساعدة السلطان فى القمع والاستبداد، واستغلال السلطة لصالحهم الشخصى دون مراعاة مصالح الشعب.
استخدم السلطان المماليك – واحترفوا هم اللعبة بعدها – فى بعض الحالات لإفساد وعى الشعب وتضليله وتقليبه على بعضه، فكان جزءًا من إستراتيجيتهم للحفاظ على السلطة وتعزيز مكانتهم، نشر الأخبار الزائفة أو التلاعب بالحقائق لصالحهم الشخصى ولصالح النظام القائم، التحكم فى التعليم والثقافة بتقديم محتوى معين يروج لمصالحهم ويضلل الشعب بشأن واقع الأمور ودورهم فيه، الترهيب والقمع، التحكم فى الدين واستخدامه لتبرير سياساتهم وأفعالهم، وتضليل الشعب بتفسيرات ملتوية للدين. وبالتالى ساعدت تركيبة وجود المماليك على إرهاق وعى الشعب ببث القلق والتوتر، الإجهاد النفسى والأرق، تشتيت الانتباه والاكتئاب، الإنهاك العاطفى العام، ليكون من محركات الحوادث وسوء اتخاذ القرارات، فقدان الفرص والتجاهل الاجتماعي، إدمان المخدرات بأنواعها الطبية والسمعية والبصرية.
عرف العصر الحديث أنواعا جديدة من المماليك، انتقلت جيناتها عبر الزمن بزخم تطورات لتأثيرهم وتفاعلهم مع المجتمع، مثل الحرس الثورى الإيراني، الميليشيات والكتائب شبه العسكرية، الشركات العسكرية الخاصة (مثل بلاك ووتر فى الولايات المتحدة) وغيرهم، وإذا كانت المشورة الماسية لإدوارد بالنتاين مستشار المستعمرات البريطانية هى استبدال القوة العسكرية، باستعمار البلاد بأهلها من خلال تجنيدهم بالعلم والثقافة والتقنية والتدريب والمال، فقد ظهر مماليك جدد بأردية وطنية ومصالح مملوكية مستقلة وداعمة، يتوزع ولاؤها بين أنفسهم وحكامهم ومُربيهم، فتموضع على الخريطة مماليك للوعى المجتمعى يحترفون نقص التعليم والمعرفة، التكنولوجيا والإلهاء، التعصب والتحيز، التضليل الإعلامي، ترند العادات والسلوكيات السيئة، التلاعب بالمعلومات، الترويج للاستهلاكية، السيطرة على وسائل الإعلام، الترفيه المفرط، الترويج لنظريات المؤامرة، تفكيك القيم وتسهيل قبول تمييعها (وما الحرب الخفية لتمكين استمرار تمثال شامبليون يدعس بحذائه رأس رمسيس الثاني، إلا واحدة من إبداعات المماليك الفرنسية وحواشيهم بمصر).
ومع بزوغ وتمكين تأثير مماليك الوعى فى التجارة، الإعلام، الدين، التعليم، الأمن، الثقافة والفن، الرياضة، التاريخ، الاقتصاد وصناعة المال.. ضعف الوعى الجمعى فتدهورت المشاركة السياسية، ظهر التمييز الاجتماعي، تجاهل الفئات المهمشة والطبقة الفقيرة، ضعف النمو الاقتصادي، وزادت الفجوات الحياتية بغلاء يستوعبه المماليك ومن والاهم، ويستصعبه الأغنياء، ويطحن البقية المكتسحة! ومع ذلك يتكرر المشهد بالمستفيد من الحقبة المملوكية الحديثة فى إفساد الوعى الجمعى من نظم، زيادة أرباح الشركات الكبرى، الجماعات المتطرفة بالتجنيد وخلق الفوضى، تسمين النخب الفاسدة، نشر الأيديولوجيات المتطرفة والتلاعب بالحقائق، تقسيم المجتمع وزرع الفتنة بين مختلف الفئات الاجتماعية والدينية والسياسية.
المحصلة؛ تشكل ملامح حقبة رمادية تتصاعد قتامتها شعبيا، مع المنظومة الجديدة لمماليك الوعى الذين طورا آليات اللعبة والسيطرة، وساعدهم الزمن والزيادة السكانية والازمة الاقتصادية العالمية وتهرأ الوعى الجمعي، ليتحول الشعب تلقائيا لقطيع سيادي، يعانى الضرائب والرسوم ورفع الدعم وموت رقابة الأسواق، منتظرا غزو ا جديدا! الذى بدوره تحول وتحور وارتدى أزياء عربية وعالمية، تتجنب العسكرية والسيف، وتتبارز بالنقد والماء والأرض!
مماليك الوعى فى 2024 وما بعدها حقيقة واقعة، يحتاج علاج وعينا الوعى بهم، وتفنيدهم بخلق كتائب شعبية تنقذ التعليم والثقافة والتعليم والفن والدين، من هواتفهم وشاشاتهم، وصحفهم وأغانيهم وأطروحاتهم! مازال هناك وقت مستقطع، ولم يأت بنى عثمان بعد!
* محامى وكاتب مصرى