هل يقتصر التلاعب بالعقول على الأفراد؟ أم يجوز فى الجماعات والمجتمعات؟ يمارس المتلاعب النفسي حيله عندما يسعى لزرع بذور الشك بعقل شخص معين أو مجموعة معينة، يجعلهم يشكون فى ذاكرتهم، وإدراكهم، وسلامتهم العقلية، باستخدام الإنكار المستمر، والتضليل، والمناقضة، والكذب، لدرجة تصل لمحاولات زعزعة استقرار الضحية وتشكيكها فى إيمانها، بهدف نهائى لتقديم صورة غير صحيحة فى صورة صحيحة، لكسب مصالح للمتلاعب على حساب المتلاعب بهم.
لفترات طويلة استقر مفهوم التلاعب بالعقول بين الأفراد، وتطور لترقيته ليكون تلاعبا بالجماهير والمجتمعات، بل والدول! وأصبحت مفردات فن التلاعب مثل (التلاعب بالأحداث، المضايقة الفكرية، الإنذارات وضيق الوقت، السخرية والفكاهة السوداء، الاستدراج) من الوسائل المطورة للنخب للتأثير على الآخرين سواء كانوا مجموعة، أو شركة، أو فئة، أو مجتمع، أو جماهير معينة! ليأتى الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، كأبرز الأدوات المؤثرة بيد النخبة للتلاعب بعقول المستهدفين، لتغيير الصورة الذهنية لحدث، أو واقعة، أو موقف ما، يراد إعادة توجيهه لمصلحة المتلاعب!
وتطور الإعلام بأدواته لتمكنه من إحكام التلاعب بعقول المستهدفين باستخدام تقنيات محترفة مثل (التحريف للكلمات بالقص والحذف وتغيير مسار الخطاب خدمة لهدف مصمم مسبقا مطلوب إيصاله للمتلقي/ التعتيم أو إخفاء المعلومات المؤدى نشرها لتعذر أو صعوبة لتحقيق أهدافها المرسومة لها/ التنكير فى صياغة الأخبار والمعلومات بصيغة المبني للمجهول، ليظهر الشخص أو الجهة كنكرة وكأن الناس لا يعرفونها لجعلهم وهميين/ لفت الأنظار عند وقوع أحداث كبيرة تهدد تحقيق الأهداف المرسومة، فيلجأ الإعلام لأسلوب لفت الأنظار بتسليط الأضواء على متعلقات أخرى غير أصل الحدث، لحصر التفكير فيما يخفف الآثار المترتبة على الأحداث الواقعة/ التجاهل، بعكس ما يحب الجمهور تفاعل المؤسسات والهيئات والشخصيات معه حول قضايا يهتمون بها ويحتاجون لمعرفة معلومات عنها، فيتجاهل الإعلام الأمر، ويعرقل أو يعتم نشر المعلومات المؤثرة بالرأى العام بشكل معين/ التدليس لتوثيق تضليل الجمهور بإيهامه الحصول على الأخبار من مصادرها الأصلية، فيظن المتلقى أن الوسيلة الإعلامية استقت المعلومات من مصدرها الأصلي/ دس السم فى العسل، عند صنع الخبر بأسس سليمة وتضمينه %90 من الصدق والحقائق بينما يدس فيما تبقى السم الزعاف/ التكرار، عندما تتحقق نتائج إيجابية تخدم المخطط الإعلامى لقضية معينة بجهود تراكمية، فيتم تكرار الرسائل بوسائط متعددة ووسائل مختلفة لتوكيد الصورة المراد الوصول لها وتثبيتها).
يتم استخدام هذه التقنيات على مستويات وبإمكانيات مختلفة، تستهدف تحقيق نفس النتيجة الأساسية، بتقديم صورة غير صحيحة فى صورة صحيحة، تحقيقا لمصالح معينة للمتلاعب، الذى يحشد معها أنواعا أخرى من الأسلحة توجه بطريقة غير مباشرة للمستهدف مثل الحرب النفسية، الابتزاز العاطفي، التطميع، الترهيب والتخويف، التحريض، التشجيع المسمم، والمحصلة النهائية قدرة المتلاعب لاستقطاب المستهدفين لخدمة خطة مصممة مسبقا، لتمكين أو حماية أو حفظ مصالحه الخاصة.
استرجاعنا لما سبق، يجعلنا نستظهر حرفة ومهارات التلاعب بصور مختلفة للأفراد والمؤسسات الذين بحكم وضعهم أو مصالحهم يتعاملون مع الحشود! سواء كانت تجارية، أو دينية، أو سياسية، خاصة وأن اتجاهات التعامل مع الأحداث الكبرى تتطلب قيادة حذرة لتأثير رد فعل الجماهير على تلك الأحداث، وهنا يأتى دور التلاعب كوسيلة لازمة للسيطرة عليهم لإحكام المخطط الأصلى وعدم خروجهم عن المسموح بمخالفته أو التمرد عليه! يمكن استشراف ذلك مع أحداث كورونا مثلا، أو تداعيات غزة، أو روسيا وأوكرانيا، أزمة أغانى المهرجانات وصراعات كرة القدم، صراع السنة والشيعة، حقيقة المديونيات الضخمة، تأثير الذكاء الصناعى على البشرية، فكرة الموضة، وغيرها من صور حياتنا اليومية التى ندور فى فلكها متلاعب بنا عن قصد أو غشم.
و(أسوأ مثال لأنواع الحروب الإعلامية للتلاعب بقضية إزالة تمثال شامبليون يدعس بحذائه رأس رمسيس الثانى فى باريس، هى تجاهلها بالصمت، وتهوين موضوعها، وعدم النشر الواعى بما تمثله من انتهاك لقيم الكرامة والنخوة والعزة والأصالة، وتنكير الساعين فى مناكبها، ودس سم التأبيد فى عسل مقترحات حلها بالتفسير، بما يقلل أهميتها ويبعدها عن الاهتمام الشعبى الجدير بها، فيجعلها مسألة ثانوية أو مجهولة، ويشغل الناس بغير أولوياتهم واحتياجاتهم من زاد الكرامة والقيم، الممكن له إسعافهم فى صحوة كسر المستحيل بالممكن!).
فإذا أضفنا لفن التلاعب بالعقول، فن الإدارة بالأزمات والابتزاز العاطفي، لأمكن تصور أشكال مختلفة للسيطرة على الوعى الجمعى للجماعات والمجتمعات، وقيادة الشعوب لاتجاهات محسوبة، تصل للتلاعب بالنظام، أو إساءة استخدامه، أو استغلاله، أو سوء الاستفادة منه أو التأثير فيه، لدرجة استخدام القواعد والإجراءات الموضوعة بهدف الحفاظ على النظام، لأغراض أخرى تتعلق بالتلاعب به توصلا للنتيجة المرجوة أو المخططة مسبقا. (عندما ينتشر تيار فكرى معين مثلا، يؤثر مدّه على استقرار مصالح النخبة، ويكسب أرضا عند الجمهور بخلق مريدين ومعارضين ومحايدين، فيكّون حراكا مقلقا، تتم مراقبته، فاستدراجه لأزمة تعرض أفكاره، ثم التشكيك فى وجوده، ثم تجريح رموزه، بالتوازى مع منظومة التلاعب بالعقل الجمعى من خلال الإعلام الرسمى والاجتماعي، لتصل نهاية الأزمة باستخدام النظام ذاته للتلاعب بهوية هذا التيار وتأثيره، توصلا لإجهاضه من الشعب نفسه المتلاعب به).
حالات أخرى معاكسة للتلاعب تمارسها فئة أو جماعة ضد الإدارة نفسها! فكثيرا ما نصادف تلاعب إدارات معينة بالشركة ضد رئاستها، ابتزازا لمصالح غير متفق عليها! بل من أوجه 25 يناير كان تلاعبا من فئات وجماعة الإخوان ومحترفين غيرهم بالإدارة المصرية، باستخدام صفحات السوشيال ميديا والألتراس وحركة الحشود، لخلق وإدارة أزمة أسقطت النظام وابتزته عاطفيا نجحت فى تنحيه، وبداية عهد جديد! المشكلة أن عواقب التلاعب بالعقل الجمعى غير مأمون العواقب، لأنه يتطلب احتراف الإدارة بالأزمات مع الابتزاز العاطفى باستخدام فنون التلاعب وأساليبه! فإذا تنوعت وتعددت التلاعبات على ذات المستهدفين، تحولوا لكيان مهترئ سهل الاختراق والانقياد والتشتت، فلا ترجو منه نفعا وقت الحاجة الحقيقية!
من هنا تظهر أهمية التوعية بالتلاعب بالعقول واستشرافه من حولنا، لغربلة أدواته وتحجيم آثارها، تداركا لعواقبها، التى لا يعانى منها سوى أنفسنا!
* محامى وكاتب مصرى