هل فشلنا أم تتم عرقلة وإحباط مصر فى قضية إزالة نسخة تمثال شامبليون 1875 بالكوليدج دى فرانس باريس – القابع فوق كرامة المصريين منذ 150 عاما تقريبا – وهو يضع حذاءه على رأس الملك رمسيس الثانى، للنحات الفرنسى أوجست بارتولدي؟ لم يتحرك أحد جديا أو رسميا منذ 2012 مع أول طرح لصورة التمثال المشين على الإنترنت! وما أشهرته أقلام المشاهير فى وجهه بداية من أنيس منصور، د. وسيم السيسى، د. زاهى حواس، بسام الشماع، الوزير صابر عرب، د. حمدى أبو المعاطى نقيب التشكيليين، الإعلامى عمرو أديب وغيرهم، وما أعلنته وزارة الدولة لشؤون الآثار 2013 إنها ستبلغ اعتراضها الرسمى لفرنسا ضد التمثال، ثم ما أعلنه د. جابر عصفور وزير الثقافة 2014 بتوجيهه لخطاب للسلطات الفرنسية لإزالة التمثال، ثم مرحلة المستشار الثقافى المصرى الأسبق بباريس بتصريحه بالرفض الفرنسى بإزالة التمثال لأى سبب، وحتى مرحلة إعلان ستيفان روماتييه سفير فرنسا بالقاهرة 2019 بمؤتمر رسمى حضره وزيرا الآثار والثقافة المصرييَّن، بأن “تمثال شامبليون لن يُزال، فهو يعبر عن الروابط المصرية بفرنسا وهو هناك منذ 120 عاما، وسيظل 120 عاما دليلا على المناخ الثقافى”! وحتى مرحلة تصريح السفير علاء يوسف – للدكتور زاهى حواس٢٠٢٣ “إنه على مدار السنوات الماضية، قامت سفارة مصر بباريس بمساعٍ دبلوماسية عديدة لحث السلطات الفرنسية لإزالة التمثال الموجود بمدخل College de France، أو على أقل تقدير نقله لمكان آخر حفاظا على شعور الرأى العام المصرى، إلا أن كل هذه المساعى لم تكلل بالنجاح لأسباب متعددة، أبرزها تأكيد المسؤولين الفرنسيين بكل مناسبة أن هذا التمثال لا يمثل أى إهانة لمصر، وأن هناك سوء فهم للمعنى الحقيقى للتمثال، لاسيما أن النحات الفرنسى Auguste Bartholdi مُصمم التمثال يُعد من أشد المعجبين بمصر وبشعبها وبحضارتها العريقة وفقا لمذكراته الشخصية”، وقد أشار حواس لاقتراح السفير المصرى لمسؤولى المؤسسة بوضع وصف كتابى على التمثال يفسر المعنى الصحيح له ويعكس التقدير والاحترام للحضارة المصرية، مع اقتباسات من الوثائق الخاصة بالنحات الفرنسى شخصيا، مشيرا إلى أن ذلك قد يساهم بتهدئة غضب واستياء الشارع المصرى من التمثال. وقد رحب المسؤولون بذلك، حيث قامت المؤسسة الفرنسية بصياغة النص الذى سيتم وضعه على التمثال)!
نضيف لما سبق مرحلة مقالاتى القانونية الفنية المفندة للموضوع من ديسمبر 2022 للآن بما قارب ال40 مقالا، أسسوا لمبحث قانونى جديد “للمسؤولية الفنية التقصيرية للفنان التشكيلي” كأساس قانوني/فني/تاريخى لإزالة التمثال طبقا للقوانين الفرنسية وميثاق الأمم المتحدة واليونسكو! وتوفير قاعدة معلومات قانونية/تاريخية/فنية/مستندية، تسمح بتأسيس مطالبة قانونية ثقافية فنية عادلة – معززة بالمستندات – لطلب حل هذه القضية اللغز، ومع ذلك لا يتحرك أحد ساكنا؟ لا أميل بفشل مصر فى طلب إزالة التمثال! لأن الفشل هو عدم التمكن من إنجاز مهمة أو هدف كالمطلوب، فينتج عن عوامل خارجة عن إرادة الشخص أو عن قصور قدراته أو إمكاناته. أما إذا كانت المحاولة موجهة لغير مختص، أو بدون مبررات موضوعية وقانونية حاسمة، أو بدون مستندات، أو بدون معايير قبول طلبات إزالة التماثيل المسيئة طبقا للقانون الفرنسى، فنحن لسنا بصدد مهمة أو هدف، ولكن إجراءات “سد خانة”! لنكون مثل مطالبة نقابة الأطباء بفصل محامٍ أخطأ مهنيا! وهنا تأتّى أن نفهم الصمت الفرنسى أمام التحرك المصرى الضرير بطلب حل القضية أمام غير قاضيها، ليستمر تجبر صنيعة بارتولدى على جباهنا.
فلمن لا يعلم؛ ففرنسا من كهنة البيروقراطية الإدارية ومخترعيها! فالسلطات الفرنسية تفضل الاتصالات الرسمية، والوثائق المكتوبة هى أساس التعامل، وغالبًا ما يرفض الموظفون التعامل مع مسائل خارج نطاق اختصاصهم، مع الالتزام الصارم بالإجراءات والقواعد والتقيد الشديد بالقوانين واللوائح والإجراءات الرسمية. بالنسبة لإزالة التماثيل المُسيئة فهناك نظام قانونى خاص وجهات إدارية محددة للتعامل بشأنها، واستحالة أن يتم اتخاذ إجراء أو حسم موقف إزالة شامبليون خارج المنظومة التى حددها القانون لتوثيق الإساءة، وإثباتها، وإثبات الضرر وأطرافه وآثاره، وسنده، وتقارير فنية وشهادات توثق هذه الأضرار إلخ، وبدون ذلك يحق للإدارة الفرنسية رفض أى طلب أو شكوى تقدم لغير الإدارة المختصة بإزالة التمثال!
ومن هنا أقول إن مصر لم تفشل فى المطالبة بإزالة التمثال، لأنها لم تسلك الطريق الفرنسى الصحيح ليرد عليها رسميا! وكل المساعى الدبلوماسية التى أشار لها السفير، وخطابات وزراء الثقافة، واحتجاجات الكتاب، ومقالات الشجب، والغضب.. وجهت لغير ذى صفة! وبالتالى فالضرر قائم والوجع حالك ومستمر، حتى لو قدمت شكواك للإليزيه نفسه! فنقيب الأطباء لن يحاكم محاميًا!
أما تفشيل وإحباط وعرقلة أو إعاقة مصر لإزالة التمثال المسيء فأخطر وأعمق أثرا، فعندما يرفض مندوب مصر الدائم باليونسكو اقتراح الكوليدج دى فرانس لتنظيم ندوة فنية وتاريخية لمناقشة موقف التمثال – فهناك علامة استفهام، عندما تصمت الإدارات المعنية بوزارات الثقافة والخارجية والآثار عن دراسة ملف القضية والتحرك باحترافية – استفهام آخر، عندما يتحزب بعض الفرانكوفون والبارتولديين بتسخيف فكرة الوجع المصرى لتنكب الحذاء الفرنسى الهامة المصرية – فهو استفهام موجع، عندما يقدر السفير المصرى حل القضية بقصاصة تلطخ الغُرة الرمسيسية تحت ذات الحذاء الشامبليونى (كما ذكر لدكتور زاهى حواس) فأنت تضع هامة مصر الحديثة تحت ذات الحذاء – وهذا استفهام أوجع، عندما يتطوع بعض المثقفين المصريين لتبنى التفسير الفرنسى للتمثال من حرية الإبداع، واختلاف معنى الحذاء، وحب بارتولدى لمصر والمصريين، وأننا أسرى لمشاعر الحقبة الاستعمارية إلخ، فهو تَبَنٍ فاسد يخالف المشاعر الإنسانية للوطنية والإحساس بالحرية والاعتزاز بالأصول!
لا إنكار لحرج المرحلة الحالية عالميا، وسخونة الملفات الدولية، والضغوط الداخلية، وتوازنات المصالح والمآرب إلخ، ولكن كما نفخر بمعابدنا وحضارتنا وترعرعنا على الزهو بها، فنحن مدينون أمام أجيال قادمة ستنمو على تعود الخنوع والتقزم وقلة الحيلة، أمام تمثال رابض 150 سنة واحتمال مضاعفاتها، ينحت بهدوء معانٍ وصورًا ذهنية لترسيخ عشق الرأس للجزمة! فمتى نتعامل كمصر ومصريين مع كرامتنا بأنها ليست رفاهية أو محل مقايضة؟
* محامى وكاتب مصرى