شمعة الفكر المصرى فى السياسة والاقتصاد والعسكرية والإدارة والصناعة والاجتماع والثقافة والفن، ضاربة بجذور مصرنا عبر التاريخ، نستحضر منها “الشعلة الخارجية” لمفكرى الثلث الأول للقرن الـ20، وتطورها “للشعلة الداخلية” المستمرة حتى أوائل التسعينيات، ثم قرب احتراقها “بالشعلة الجوهرية” حتى العقد الأول للقرن الـ21! أضاء لهب شمعة الفكر الشارع المصرى بالمرحلتين الأولى والثانية، وكان تنويرًا – بالصحف والكتب، ليستمروا مع الراديو، فالتليفزيون ثم السينما – وأنجب مفكرين وكُتابًا وساسة وفنانين ومعارضة وقادة واقتصاديين وإداريين ومهنيين، قادوا وعى الطبقة الفقيرة والوسطى، ليُشكلوا شارعًا واعيًا يحترف المناقشة والاستيعاب والترشح والانتخاب وسَنّ القوانين، لدرجة تفشّى “عقيدة رئيس الوزراء” بين الشعب! فكان التندر بأن أغلب المصريين رؤساء وزراء! فمعتاد تسمع من سائق تاكسى أو عامل، أو جامعي؛ رأيًا، أو وجهة نظر، أو مقترحًا، أو تعليقًا قيّمًا، ولكن للحق، كانت أغلب المشاكل والأزمات الحالية لم تدخل حيز التنفيذ بعد!
قدرًا (ساعده تخطيط مُحكَم وتنفيذ أخبث)، نعيش مؤخرًا ذُبالة شمعة الفكر المصري! ليتبقع وعى الشارع بعتمة فكرية، سلبت من المصريين نظرهم، لكم وكيف زخم تغيرات وقعت بعالمنا المعاصر، اخترق رمحها الوعى المصرى وجرّد أسنته ودروع فهمه، وأحاطت بنا فأصبحنا نُقلّب كفوفنا على ما تبقّى وينتظره مصير مجهول؟ رحيل شموع الفكر وتجريف بذوره، والتركيز على ثقافة “وش الفتة”، جعلنا نتراجع ثم ننضب من “عقيدة رئيس الوزراء” غصبًا وقهرًا وجهلًا! جواهر الخبرات – وليس الفكر – تعمل الآن بحديث “الزم دارك وأمسكْ عليك لسانك”! فلم نعد نعرف إحداثيات واقعنا حتى ندَع ما ننكره! فطبيعة العتمة الفكرية أن تزدهر حركة “التخبط”، وصوت “الطبل”، وشكل “المسخ”، وأداء “الضعف”، وسلوك “الخوف”، وصفة “التردد”، وعادة “الارتكاس”!
ومن ثم فطبيعى تراجع وعى الشارع فى الرأى والتصدى والمواجهة، ضد هجمات التغيير السلبية محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا! وطبيعى تحل ثقافة القوة والرعب والخوف والتسطح بالأعمال الفنية والأدب! وثقافة الضباب فى السياسة والاقتصاد والمال! فحجم وسرعة وعمق التغيير لا يزنه فكر أو أقلام أو آراء، قادرة على تحليله وإعادة التنوير لوعى الشارع ليقول رأيه أو حتى يفهم، لنكون أسوأ من الأنعام حيلة! القضية الحقيقية بالهرم البشرى المُعتلى مصر وينتفع أو يستثمر أرضها ويدير مواردها وشعبها! فلم تعد صفة أو وظيفة وزير أو رئيس وزراء حلم أهل الشارع، ليساعدوا بتقديم أى حل! فمهمة شموع الفكر ليست فقط إضاءة الشارع، ولكن المساعدة برؤية أهله لبعضهم وأرضياته، ومبانيه، وجوانبه، وجيرانه، (لاستيعاب علاقاتهم مع المكان والتاريخ والآخر). لتصور ما سبق، أدعوكم لتدبر وعى الشارع وشموعه حتى 2009 مثلًا، بقضايا موقف مصر من سد النهضة، وعدوان غزة، وتمثال شامبليون بباريس يضع حذاءه على تاج رمسيس الثاني؟ أتصور أن فكر وأقلام واستشارات جيل العظماء من الكُتاب والمحامين والسياسيين والأثريين والإعلاميين، كانوا سيتصدّون بحملات مُمنهجة تنير وعى الشارع ليدعم الإدارة فى تصدّيها لهذه القضايا. هنا لا تفضيل عصر على عصر، ولكن إبراز وعى شارع على شارع!
كثيرًا ما كانت الإدارة تستفيد من مفكرى وكُتاب السياسة والمعارَضة والمهنيين، الحاملين بداخلهم شخصية مواطن بدرجة رئيس الوزراء، فيجزلون العطاء الوطنى بالرأى ووجهة النظر. شارعنا الآن يفتقد منهجية التفكير العام. قطعًا يوجد زخم من آحاد الناس والمجموعات يتمتعون بلمعة الفكر الفردي، ولكن دون مشروع فكرى يستهدف مصر ويوجَّه للجمهور، ويساعده لاستعادة روح وفكر الإيجابية أو الإنقاذ أو الحل، فلا غرو أن الإدارة “لا ترى أو تستغيب وتفتقد” من يُعيد لوعى الشارع تنويره، فتستفيد منه لإنقاذ موقفها الحالى المرهوب بلوغه بيع أصولها؟
القضية المصرية حاليًّا تمسّ وتخص الهرم البشرى المُعتلى الأرض! فما زالت مصر لديها بحران ونهر النيل، قناة السويس، ثُلث آثار العالم، غاز طبيعي، ثروة معدنية ومحجرية، تاريخ عريق، مساحات شاسعة من الأراضي. كل ذلك ثوابت يُضمّ لها المدن الجديدة والبنية التحتية المطورة! ومع ذلك فالعتمة الفكرية الضاربة بالأجيال الجديدة،تتسلل بهدوء لمستقبليات الوطن تحت ظلال الديون، فساد الإدارة والمنتفعين، الأزمات العالمية، التزام الخبرات بديارها، وتسريع الربيع العربى المستجدّ بالأفروسنتريك وغزة واللاجئين، والتضخم الشرس! عندما تبدأ حملة مُمنهجة لإذاعة بدء انسحاب الاستثمارات العربية، وشيوع دعوة الفئران لمغادرة السفينة، فالأدعى انتفاضة الإدارة ضد سياسات البيع والاقتراض والرمال المتحركة، وأخذ قرار مصيرى بالإنقاذ وليس الإعاشة.
ليس خطأ أو عيب اكتشاف حياتنا بشارع الجهل بعدم معرفتنا مكونات حلول الإنقاذ! الخطر عدم المعرفة بعدم المعرفة! سواء لضخامة المعلومات المؤدية للتشكيك والحيرة أم لنقص وخوف الخبرات أو هجرتها، أو أن جهلنا مصنوع بيد يعقوب! (المغول أشهر مستخدِم لصناعة الجهل بغزواتهم بإثارة الرعب والشك والحيرة والشائعات الكاذبة، تهويلًا لقدراتهم وقوتهم وتهوينًا من قوة البلاد المغزوّة) – تؤسس صناعة الجهل بشطب المعرفة، وتحدّيها، وعدم اليقين المُصنع – فمثلًا قضية مصر ضد تمثال شامبليون تُعدّ صمتًا تاريخيًّا يتحدى المعرفة بالمسئولية الفنية التقصيرية للنحّات، ليصل بنا لعدم اليقين المُصنع فى حق مصر للمطالبة برفع حذاء شامبليون عن تاج الملك!
لذلك يمكن القول بانتهاء عقيدة المواطن رئيس الوزراء! فشارع الجهل (بشطب معرفتنا وتحديها وعدم تيقننا وصمتنا التاريخي)، طبيعى لن ينجب حالمًا بوزارة أو رئاسة الوزراء لينحت حلًّا أو يسدّ ثقبًا أو يقضى دَينًا! زواج الجهل للفقر فينجبا الجريمة! وللمال فيلدا الفساد! وللدين فيخلفا التطرف والإرهاب! وللسلطة فتحصل على الاستبداد! الأزمة الحقيقية أن إطلاق الإصلاحات السياسية والمؤسسية وخطة إستراتيجية شاملة وتعزيز التنمية الاقتصادية، حتمًا تمر وتتعامل مع أهل شارع الجهل بجرائمه، وفساده، وتطرفه واستبداده! وبالمقابل لا توجد شموع فكرية حقيقية قادرة على بث لهب التنوير (سواء رحيلًا أو ضعفًا أو كبتًا)! فانتهاء عقيدة رئيس الوزراء أورثتنا أجراس إنذار ولمبات حمراء بحتمية إعادة تشكيل رءوس الإدارة، استدعاء حلول خارج الصندوق، تطوير نُظم الرقابة، تفكيك الجهل من مكوناته، وإعادة اختراع الحكومة. فرئيس الوزراء بشارع الجهل من أهله، والمرحلة تصرخ بالتغيير!
* محامى وكاتب مصرى