لا يمكن حاليًّا وصف ملامح المرحلة التاريخية التى بدأت فى السنوات الماضية؛ لأننا لا نعرف إن كانت ستتسم بعدم استقرار دولى طويل الأمد، أو إن كان عدم الاستقرار هذا أمرًا مؤقتًا، كما أننا لا نعرف لا شكل وهيكل موازين القوة، ولا قواعد اللعبة الجديدة أو القديمة التى من شأنها إعادة الاستقرار إلى النظام الدولي.
ما هو مؤكَّد أن عصر الافتراء الغربى فى استغلال الوضع المهيمن انتهى أو على وشك الانتهاء، وأن هذا الغرب يدخل المرحلة الجديدة وهو ذهنيًّا غير جاهز، ودون استعداد حقيقى رغم امتلاكه كمًّا هائلًا من الأدوات، أهمُّها قدراته الغريبة والاستثنائية فى مجال المعرفة والبحث العلمى والاكتشافات المحققة لنقلات ثورية.
تأمل ردود فعل ومواقف شعوب الشرق والجنوب من العدوان الروسى على أوكرانيا، وهو عدوان لا مبرِّر له سوى الرغبة الروسية فى استعادة الإمبراطورية، ورغم عدالة القضية الأوكرانية، ووضوح فساد الحجج الروسية، والتأثير الكارثى لهذا العدوان على اقتصادات العالم، ولا سيما فى الدول الفقيرة، فإن العالم الثالث بأكمله بقى إما على الحياد أو متفهمًا لما تقوله روسيا عن ضرورة تحجيم الغرب ووقف مساعيه لفرض نموذجه على البشرية كلها.
وتأمل التفسير الغربى لهذا؛ أقصد التفسير الرسمى فى واشنطن، والسائد فى الإعلام الغربى وفى بعض الدوائر الغربية، مع إقرار أن هناك مَن هو أدرى فى العواصم الغربية، هذا التفسير يرى أن هذا الموقف العالمى هو موقف دول سلطوية تُعادى الديمقراطية وتتمنى نجاح النموذج الشرير الرافض لها؛ لأن المشترك بين هذه الدول وبين هذا النموذج الشرير كثير. وعندما اندلع الصراع الإسرائيلى الفلسطينى مجددًا تبنّى البعض القراءة نفسها.
ونقرأ تفسيرًا مكملًا؛ وهو فعالية خطاب الدعاية الروسى المخادع والكاذب، وإجادته فن دغدغة مشاعر شعوب العالم الثالث الكارهة للغرب ولإرثه الاستعماري. ووفقًا لهذا التفسير، يعجز الخطاب الغربى عن مجاراة الإعلام الروسى فى هذا لأنه – وفقًا لهذا التفسير – يبغى الحوار ويخاطب العقل بالتى هى أحسن ويَعرض الحقائق كما هي، وهذا التفسير يُعفى الغرب «الحالى» من أية مسئولية، الخطأ خطأ الأسلاف وضعف وعى شعوب الجنوب.
التفسير الرئيس – هجوم الأشرار على النموذج الخيّر وهو الديمقراطية – تافه. ولضيق المجال أكتفى بالقول إن الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا دول ديمقراطية. ولو كان هذا التفسير حقيقيًّا لاقتصر الموقف السلبي، أو على الأقل المخيِّب للآمال، من قضية عادلة كالقضية الأوكرانية على الأنظمة، فى حين أن أى مراقب يعلم أن قطاعات شعبية غفيرة تؤيد روسيا.
التفسير الثانى أكثر وجاهة، فنَعم الدعاية الروسية مضللة، ونَعم الشعوب لا تتابع مجريات الأمور فى المناطق البعيدة عن إقليمها، أو لا تتابعها يوميًّا، فتعجز عن التمييز بين الصدق والكذب فى الملفات التى لا تتابعها باستمرار. ونعم فإن فرضيات ومقاربات جماعات السياسة الخارجية فى كل دول العالم بحاجة إلى مراجعة كاملة، لكن إعفاء الأنظمة الغربية والإعلام الغربى من أية مسئولية فى تفضيل شعوب الجنوب لروسيا أمر يجافى الواقع، ولا يخدم الغرب ويمنعه عن إقامة مراجعات مفيدة لموقفه.
قضية التغطية الإعلامية تتطلب كتبًا، فى هذا المجال أكتفى بما يلي. يبنى الجمهور تقييمه لرسائل هذا الإعلام أو ذاك بناءً على تجربته وعلى ما يعلمه عن تغطية هذا الإعلام للقضايا التى تهمُّه ويتابعها، ويكون من الصعب إقناعه بأن من لا يوفَّق فى تغطية أحداث ومناطق الشرق الأوسط والعالم الثالث، يقول الحقيقة فى ملفات أخرى – لاحظوا أننى أستخدم ألفاظًا مؤدبة خجولة لأننى أرجو حوارًا بين الشمال والجنوب؛ فالوقت ليس وقت «الردح».
عدم فهم الآخر هو أيضًا عدم فهم الذات. لم ننتهِ طبعًا من قضايا الفهم وصحة المقاربات، ومن ناحية أخرى هل استعدّت الدول الغربية لمواجهة مع المحور أو المحاور المُعادية؟ سيكون لنا فى هذه القضايا أحاديث.
أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية