هل توجد أرضيات مشتركة بين نسخة تمثال شامبليون 1875 بالسوربون باريس لنحاتها أوجست بارتولدي، والموقف الغزاوى الحالي؟ يجمعهما مفهوم “الأزمة”، بجانب “معاداة الشامبليونية” كتعبير من مؤيديهما عن الحق فى الوجود، وحرية الفنان والإبداع الفني، فى قسر وضع الحذاء على رأس رمسيس الثانى وهامات أهل غزة!
ولنرجع للأصل! تتطلب الأزمة وضعًا عاديًا/ إستاتيكيًا، تعترضه أزمة داخلية أو خارجية، فتحوله لوضع ديناميكى متحرك مؤقتًا أو دائمًا! وبالتالى إما تتصاعد الأزمة وتستمر فى غليان المكونات العادية للوضع، فتحوله لإستاتيكى فى ديناميكيته، وإما يبرز طرف داخلى أو خارجى لإدارة هذه الأزمة للسيطرة عليها أو حلها أو استبدالها! أهم شيء فى الأزمة الاستفادة من وجودها وعصر نتائجها، فمثلًا نسخة بارتولدى المعدلة لتمثاله شامبليون الأصلى 1867، بانتقامه من الخديوى إسماعيل لرفضه تمثاله الفلاحة بمدخل قناة السويس 1869 عند افتتاحها، وهى النسخة المنصوبة إستاتيكيًا حتى الآن بالسوربون منذ 1875، حولتها أزمة نشر صورة التمثال وفيديوهات له على الإنترنت مند 2010، إلى ديناميكية الغضب والرفض المصرى لاستمرار إهانة رمز الحضارة المصرية القديمة والجديدة، ورفض محايد من دوائر عالمية لانتهاك معنى التمثال لحقوق الإنسان وإهانة تاريخ وتقاليد الشعوب طبقًا لمواثيق الأمم المتحدة واليونسكو ومبادئ الثورة الفرنسية ذاتها. وذات الشيء فى أهل غزة! فالوضع العام فيها وما حولها إستاتيكى بدرجة غليان معينة تعودها العالم منذ عقود! ولكن حولته أزمة “عملية طوفان الأقصى/السيوف الحديدية” لحالة ديناميكية عالمية، تجتاح مشاعر جنسيات مختلفة.
المشكلة أن استمرار (الديناميكية) المستجدة للوضع، قد تعود به ليكون (إستاتيكيًا) يعتاده العالم! فلا يُرفع الحذاء عن تاج رمسيس الثاني، ولا عن الهامات الغزاوية! ورغم أن أزمة معرفة العالم بصور وفيديو شامبليون، وكذلك إبادة السيوف الحديدية، قد جرت العالم لحالة من ديناميكية الصراع متعدد الأطراف والمصالح، إلا أن استمرار الصراع فيهما قد يعود بهما “للوضع العادي” الستاتيك لاستمرار موقف تجبر التمثال والسيوف الحديدية! فلا الموقفان ينفجران، ولا يُصفيان، أو يُحلان، ولكن يبقيان فى حالة فورة مستقرة/ ستاتيك! وهنا يلتقط -صياد فرص أو صانع ألعاب- غليان هذا الموقف “الإستاتيكى المدمنك”، ويديره عن بُعد أو بأصابع داخلية بمصالح مشتركة، وينقض على الحالة لإدارتها لحسابه، أو استخلاص فوائد جديدة أو مطورة، أو بروزة قوته، أو سن عبرة فى الأعراف الدولية لفرض قواعد جديدة، ولو خالفت قوانين ومواثيق دولية!
ديناميكية الرفض والغضب الشامبليوني، تدعمها المصالح الفرنسية والبارتولديون، فى إدارة فرنسا للآثار المصرية، واستمرار ريادتها العالمية لعلم الآثار المصري، بسبب الزعم الفاسد بأن شامبليون هو من فَكَّ وحده شفرة اللغة الهيروغليفية! وديناميكية السيوف الحديدية يسندها الدعم الأمريكى وموالوه، لاستمرار الشوكة فى الخصر العربي، وتفريغ غزة جغرافيًا لمشروعات طموحة جدًا مع قناة بن جوريون، والطريق البرى لأوروبا وباقى خطط التمكين الجغرافي!
وبذات النسق فى إدارة الأزمات أو الإدارة بالأزمات، نجد أن إدارة العالم كما كنا نعرفه، تحوَّلت بأزمة فيروس كورونا، من إستاتيكية وضعه المعتاد / المقبول مع الأمراض والفقر والصراعات المحسوبة وفجوات الفقر والثروة، لديناميكية فجة تحصد الأرواح ومليارات الدولارات، وتخلق مئات المصالح والقواعد الجديدة، التى استقرت إستاتيكيًّا (فى ديناميكية قواعد كورونا) لمدة سنتين، حتى يُستكمل فيها عصر الأزمة من مستفيديها!
ولم تكد كورونا تختفى كما ظهرت، حتى تطورت طرق إستاتيكا الديناميكية فى أزمات روسيا/ أوكرانيا – الصين/تايوان – إسرائيل/غزة – إثيوبيا/ميناء الصومال- السودان- ليبيا/الميليشيات – المغرب/موريتانيا/الجزائر – مصر/الأفروستاتيك – غزة/رفح/مصر- مصر/ لاجئى سوريا والسودان- فرنسا/أفريقيا- وغيرهم من حزم أزمات دولية على التوالى والتوازي، تحافظ على حالة الغليان الديناميكى “للكرة الأرضية” لمصلحة مستفيدين من احتراف خلق وإدارة الأزمات، ليحولها إلى ديناميكية جامدة يتعودها العالم تدريجيًّا بقواعد جديدة، تنتهى فيها عهود السلام الورقي، ويتطور ازدهار صناعات السلاح، والأدوية والتقنية والتطوير العقارى وميديا تفريغ وعى الشعوب. أغلب ديناميكيات الصراعات يتجلى فيها المفهوم الشامبليونى بالفوقية، والإهانة، والاعتداء على حقوق الإنسان! مفهوم “معادة الشامبليونية” فى طريقه ليصبح تطويرًا لمعاداة أقدم، ليفرض نفسه فى الإبادة الغزاوية، ومختلف مواقع الصراع فى العالم التى تنتهك فيها حقوق الإنسان بمختلف المعاني، سواء كانت حقوقًا تاريخية، أو جغرافية، أو عرقية، أو اقتصادية، أو إبداعية! فالقاسم المشترك هو أزمة تطوير إستاتيكية مبادئ (الحرية والمساواة والإخاء)، لديناميكية تطوير معانى انتهاك حقوق الإنسان ذاته لأى سبب أو معنى، بما يسمح بوضع حذاء أى جنسية على رأس أى جنسية!
لا أزعم أن أوجست بارتولدى خطط لكل ذلك! ولكن بإخفائه للفوقية والعنصرية التى صور بها شامبليون، وإهانة وضعية حذاء تمثاله على رأس رمز لحضارة المصرية القديمة والمصريين وحقوق الإنسان، وراء إستاتيكية حرية الإبداع والثقافة والعلم المحتجين بها دومًا، وافتتانه بزيف اكتشافه المنفرد للهيروغليفية، جعلت الكثيرين على مر السنين يصابون بمتلازمة ستوكهولم! (ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع مَن أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يُظهر بعض علامات الولاء له كتعاطف المُختَطَف مع المُختَطِف)! هذا الإخفاء تحوَّل باستمرار التمثال الاستوكهولمى لمعنى ديناميكى فى نشر ثقافة الدعس بالحذاء، لأى سبب أو بزعم أى حق على مستوى العالم! لدرجة ترقية الاعتراض عليه أو نقده أو طلب إزالته إلى “معاداة الشامبليونية”! فى ثقافة تحترف تغيير الوضع الإستاتيكى باستثماره ديناميكيًا، لاستمرار فوائده وتعوّد الناس عليه، لدرجة تحويله لإستاتيك مرة أخرى بالفوائد المعصورة، كإحدى صور متلازمة ستوكهولم!
ولكن مقابل الحذاء الغزاوي، ظهرت ديناميكية جديدة لأول مرة لرفعه، بتقديم دولة جنوب أفريقيا قضية لمحكمة العدل الدولية ضد إبادة الأحذية للهامات الغزاوية – بغض النظر عن توقع حكمها! هنا أزمة جديدة بلاعبين جدد، ستهدد ثقافة معاداة الشامبليونية بحسم! وستكون فاتحة لدروب جديدة فى نقر الحائط الشامبليونى خارج الأطر المعتادة أو الدفوع الهشة لحق الوجود ونظرية الأمن وحرية الإبداع وحسن نية النحات والتفوق الثقافى والعلمي! فمعاداة الشامبليونية فى غزة بمحاولة جنوب أفريقيا القضائية، أرضية جديدة ربطت بين مفهوم الأزمة، والكفاح ضد استمرار تمثال شامبليون لبارتولدى وشيعته، وحق مصر والمصريين فى تأسيس ديناميكية جديدة، لزعزعة هذا الاستمرار حتى ينقض مع بدايات 2024! ولنا فى المحاولة أسوة حسنة!
* محامى وكاتب مصرى