خواطر مواطن مهموم 222

توفيق اكليمندوس

9:22 ص, الأحد, 24 ديسمبر 23

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:22 ص, الأحد, 24 ديسمبر 23

عن العنف (2)

للعنف السياسى القاتل أشكال مختلفة… عنف الدولة، وعنف الميليشيات، وعنف المجموعات الصغيرة، وعنف الأفراد… عنف مخطط، وعنف عشوائى انفجر فجأة… عنف يستهدف فردًا أو أفرادًا محددين سَلفًا… وعنف يستهدف جماعة بعينها، وعنف أعمى يعبر فقط عن غضب… عنف يتم بناءً على حكم قضائي، وعنف بناء على قرار إداري… عنف يرمى إلى إرهاب الأحياء… وعنف لا هدف له سوى التنفيس… وهناك عنف لا يشكك أحد فى كونه سياسيًّا، وعنف يراه البعض سياسيًّا، ويراه البعض الآخر لا دعوة له بالسياسة.

العنف السياسى يطرح عدة أسئلة جوهرية تهمُّ المؤرخين والفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس وعلماء السياسة. والسؤال الذى يهمُّنى شخصيًّا هو… لماذا يشترك فى عمليات القتل وفى ارتكاب المجازر ناس عاديون، وربما أفاضل… ناس لم يُعرَف عنهم أنهم ساديّون أو مُجرمون… السؤال يفرض نفسه بإلحاح فى بعض المجالات والملفات… تاريخ النازية وتاريخ الثورات؛ ولا سيما الفرنسية، والروسية، وتاريخ الحروب الأهلية الدينية، وتاريخ الصراع الإسرائيلى الفلسطيني. ويقول لى زميل فاضل – قامة أكاديمية مصرية شابّة عظيمة تفضل فيما أتصور تجنب الإعلام – أن الدارس للشئون الأفريقية يواجه يوميًّا هذا السؤال.

لا أتكلم هنا عمن يطيع أوامر قادة الدولة، ولا أتكلم عن العقائديين الذين يحاولون تطويع الواقع بالقوة ليتسق والنظرية التى يؤمنون بها، والذين يرون أن التعارض الصارخ بين الواقع والنظرية لا يدلُّ على خطأ النظرية، بل يؤكد فساد الواقع ويُحتّم تدميره، أتكلم عن ناس عاديين لا اهتمامات سياسية معروفة لديهم ولا جرائم مرصودة، ويتحولون فجأة إلى وحوش وقتلة وجلّادين.

ويُجمع العلماء على ما يلي… المجازر تُرتكب عندما يسود جو من الخوف والقلق الوجوديين… خوف وقلق على وجود الجماعة التى ينتمى إليها مُرتكبو المجازر – دينية أو إثنية أو قومية، الخوف العميق القابض على النفوس المعطِّل للتفكير والتعقل، الخوف من الزوال والاندثار هو صانع الجو الذى يُهيئ المجازر، قد يكون لهذا الخوف ما يبرره، وقد يكون ثمرة تصورات خاطئة ومريضة. وعندما يسود مثل هذا الجو يلجأ الكثيرون من أبناء الجماعة إلى بحث عن مصدر التهديد، وإلى تحديده واستهدافه؛ هو أو رمز له، أو عميل له. وفى هذا الجو يستهدف أبناء الجماعة إما فئة لا تنتمى إلى جماعتهم، وإما فئة من أبنائها يرونها مختلفة عما هو سائد أو مقبول، اختلافًا يشكل تهديدًا، اختلافًا يعدّ نجاسة، ويكون القتل، فى نظر مُرتكبيه، تطهيرًا للجماعة ودرءًا للمفاسد ودفاعًا عن النفس وتعبيرًا عن الغضب وعلاجًا من داء القلق.

عرفت كل الجماعات البشرية هذا القلق الوجودى والمجازر البشعة المترتبة عليه، ولعبت الأديان دورًا كبيرًا فى المسار الساعى إلى التخلص من هذا الداء، وابتكر البشر أداة للجْم العنف ومنعه ومنع المجازر المجنونة… هذه الأداة هى الدولة. أداة نظر لها الفيلسوف العظيم توماس هوبز.

الدولة تاريخيًّا سعت إلى احتكار العنف المشروع وأدواته، وعملت جاهدة على القضاء على العنف العشوائى على أراضيها، هذه هى مهمتها الأصلية والرئيسة والمقدَّسة، وأعرف طبعًا أن هناك أنظمة استغلّت احتكار الدولة للعنف للاعتداء على شعبها أو على أحد مكوناته، ولكن أغلب الدول نجحت فى هذا الامتحان العسير.

للنجاح وجه آخر… قيام الدين والدولة بتهذيب النفوس وتوعيتها وبثّ معايير وقيم تُعلى من شأن الحياة ولا تتسامح مع العنف القاتل وتلفظه،

لكن هناك شعوبًا لم تعرف مفهوم الدولة، أو عرفتها ورفضتها، وهناك دول تضعف، فى مرحلة ما، ونذكر على عجالة بعض العوامل التى تسهم فى هذا، الفساد يضعف الدولة، الهزيمة فى الحروب والثورات تضعف الدولة – لا يعنى هذا أن الثورات دائمًا شر، العولمة أدت، بقصد أو دونه، إلى إضعاف الدولة، بعض الجماعات ترمى إلى إضعاف الدول، شيوع نظريات المؤامرة يخلق جوًّا يُهيئ للمجازر.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية